التفرد و الخصوصية في أعمال الشاعر الكبير أديب كمال الدين

أ. د مصطفى لطيف العارف | ناقد وقاص عراقي


تکتسب القصيدة الحديثة خصوصيتها, و تفردها عند الشاعر المبدع ,والرائع (أديب كمال الدين)، الذي تفرد بخصوصية شاعرية الحرف, والنقطة و لا تکون قصائده مجرد تکرار لما سبق قوله مئات المرات بطريقة أخری, ويمكننا القول ان لكل شاعر طريقته الخاصة في التفرد والخصوصية التي تتميز بها القصيدة الشعرية الحديثة, لتكون مؤثرة في المتلقي, وقد عبر شاعرنا عن هذه السمة المميزة في قصائده, بل اتجهت القصيدة عنده ضمن مشروعها في استئصال كل ما هو زائد وخارجي, وغير شعري الى قلب الشعر مباشرة من دون وسائط أو محطات, وبذلك تخلصت من الكثير من الأسباب التي تزيح ثلاثة أرباع الشعر خارج دائرة الشعر, ولا تعده شعرا, وتوجهت الى نبض الشعر, وجوهره, وفضائه الحقيقي وعلى مستوى إفادته من تقانات القص ومخرجاتها السردية, فانه يعمل بمعطياته, ويتجاوزها إلى مجال أرحب, وأكثر حيوية هو ما بعد القص, حيث تغيب السردية الظاهرة لصالح سردية باطنية تعمل بإمرة الشعرية, فنراه يقول :-
كانوا يحذرونني في كل يوم ,
بل في كل ساعة :
لا تخرج على النص !
قلت : واين هو النص حتى اخرج عليه ؟
لم يكن هناك نص على الاطلاق !
وكانت تحذيراتهم مجرد هلوسات ,
هلوسات من العيار الثقيل !
فهي أعني القصيدة الحديثة عند شاعرنا تتقدم مباشرة إلى تشغيل الفعل ,وإطلاق كيميائه, والى بؤرة الحركة في المشهد, وتفعيل طاقتها الإنتاجية كاملة , وتقتصد كثيرا في التشكيل إلا بالقدر الفاعل المشترك الذي يسهم في حسم جوهر العمل لصالح شعريته, إذ الشعر في نشاطات الحركة الشعرية, وفعالياتها ها هو المعني أكثر من أي شيء آخر, ان القصيدة الحديثة تتكلم انطلاقا من مركزها البؤري المشع ولا تقول من المحيط ,والاطراف, والطبقات البعيدة , بطريقة توحي, وتوهم بان الكلام قادم من لسان المركز الشعري المنتج , تدخل قصائد اديب كمال الدين فضاء القصيدة الحديثة, وهي تحاول التخلص من الارث الثقيل لهيمنة, الأنا الشاعرة, وتراكماتها, وازماتها, وتتقدم على نحو اكثر عمقا وصفاء وصيرورة, وخصبا, بعد أن بددت الكثير من ممكناتها من خلال ظهورها المستلب في الحقل الشعري ,الأنا الشاعرة بأنموذجها التقليدي المهيمن, فنراه يقول :-
في حلمي
لمستني كفك يا جدي
فبكيت رايت الكف تشير الى
حاء الراس المرفوع على الرمح,
لكني بعد معاشرة الافعى ومجالسة الذئب..
وجدت الحاء هنا حاء الرمح
لا حاء الماء
فالابداع في قصيدة الحرف عند شاعرنا الكبير (أديب كمال الدين) هو القدرة على ابتكار شيء لم يوجد سابقا ,ويعتمد على مواهب شاعرنا المبتكر, ومعلوماته, وخبراته دون ان نهمل محيطه الخارجي الذي يخلق المنبهات, والايحاءات التي تربط بين قدراته الداخلية الذاتية ,والبيئة المنشطة لتنمية ما فكر به او ما حاول خلقه ,عند ذاك يخلق النص ان كان المبدع شاعرا,فان نظر الى ماحوله كان خياله وهما شد به ذاته الشاعرة ,وما يحيط هذه الذات, و قد يبلغ القمة من خلال الربط او التشبيه لان الاشياء يختلف بعضها عن بعض ويشبه بعضهاعن بعض,والشاعر يربط بينهما,فان اشتد الشبه او العلاقة انعدمت الثناية واذا استشرى الخلاف انعدمت الرابطة,اداته التي تبرر صنيعه هو منطلقه الذي يسمو على منطق العقل ,منطق المعنى القائم على بنية رمزية واحدة باعتبار ان المعنى نشاط انساني رمزي اداته اللغة الموصلة بين الانا, والآخر ,فنراه يقول :-
ها أنذا أعود إلى الشعر
مثل كل مرة
بسببك أنت.
اعود لاشاهد حروفي
يضربها الزمن بسوطه العظيم.
اعود لارى قطتي الكبرى التي تشبه مدينة كبرى
تضيع وسط البحر
إن شاعرنا يهدف إلی أن تکون قصيدته إبداعاً بکراً ,و من ثم فهو شديد الحرص علی أن ينظر إلی الوجود من زاوية لم يسبق لأحدٍ قبله أن ينظر إليه منها، وأن يعالج هذه الرؤية الخاصة بطريقة فنية متفردة, لتنوع الأداوت الفنية التي يستخدمها الشاعر, و طريقة استخدامه لها، و لميل القصيدة الحديثة إلی أن تکون کياناً متفرداً خاصاً، أصبح بناء هذه القصيدة علی قدر من الترکيب, والتعقيد يقتضي من قارئها نوعاً من الثقافة الأدبية, والفنية الواسعة , والشاعر (أديب كمال الدين ) مثقف ثقافة عربية من خلال اطلاعه الواسع على الدواوين الشعرية للشعراء ,واطلاعه الواسع على القرآن الكريم ,والسيرة النبوية المباركة, فضلا عن اطلاعه الواسع على الثقافة الغربية عن طريق الترجمة,او اللقاء المباشر بكبار الشعراء, فنراه يقول:-
ليس من حقك,
يا صديقي العظيم تولستوي,
ان تلقي بانا كارينينا
تحت عجلات القطار!
كيف سمحت لعجلات القطار
ان تقطع اصابع انا المترفه
ووجهها المضيء بالعذوبة والرقة والجمال
وشعرها الفاتن
ويعد التكرار في القصيدة الحديثة من بين الاساليب ذات الطبيعة الخادعة عند شاعرنا ,وذلك انه ظاهريا يبتدئ للعيان مداخل سهلة الولوج والاستثمار,لكن بالمقابل بحاجة الى ان يجيء في مكانه من القصيدة وان تلمسه يد الشاعرتلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات, لا ان تتوالى من دون وعي, فتصبح مجرد ثقل ينوء تحته النص الشعري , وكان لهذا الملمح التعبيري بروز واضح في نص شاعرنا ,مصحوب باحايين كثيرة بلمسة سحرية من يد الشاعر, وان ترديد ,وترجيع الفاظ بعينها مثل كلمة (إلهي)عند الشاعر, من دون سواها سيكشف لنا الموجه الرئيس الاكثر فعالية في التجربة الشعرية عند الشاعر, والتكرار من الأدوات الفنية التي استخدامها الشاعر (أديب كمال الدين) في قصائده الشعرية , فنراه يقول :-
إلهي ,
كلما كتبت قصيدة جديدة
تمنيت ان تمسح القصيدة الغبار الثقيل
عن مراة حياتي
لارى وجهي و
لكن القصائد كثرت وتكاثرت
والغبار الثقيل
لم يزل فوق المراة
كما هو
ويعد الاستفهام احدى البنى الرئيسة التي يقوم عليها شعرشاعرنا, بل تشكل الاساس في كثير من النصوص الشعرية التي اعتمدها في قصائده الشعرية الحديثة, وتعد هذه السمة ان اهم السمات في تركيب القصيدة عنده, ولم يكن حضور النص الآخر عند شاعرنا مصادفة او نتيجة عرضية لقراءات متنوعة او معارف متعددة استقاها من خلال حياته, بل كان جزءا لا يتجزأ من عالمه الشعري ,والشخصي معا,لهذا كان استدعاؤه لنص الآخر مبنيا ليس على حب الاستدعاء او الاستيحاء, بقدر ما كان يجد على الدوام بينه وبين من يستدعي نصه اهتمامات ادبية او سياسية او دينية مشتركة ,مع وعيه للفروقات الجوهرية بين زمنه من جهة وبين الآخر من جهة ثانية,بل ان الشاعر(أديب كمال الدين) كان على وعي أن القصيدة الحالية معنية بربط اختيارات الشاعر الفردي الخاص بتراث تاريخي, فكان من المناسب أن يكون هذا التعبير عن هذا الاختيار, مرتبطا بتراث أدبي, قد اجاد في هذا الموضوع فنراه يقول :-
أوقفي في موقف المصطفى
وقال: أرايت إلى من رأى
من آياته الكبرى
أرايت إلى من أرسلته رحمة للعالمين ,
وختمت به الأنبياء كلهم والمرسلين ,
وجعلت له الأرض طهورا ومسجدا,
علی الرغم من أن القصيدة الحديثة تترکب من مجموعة من العناصر, و المکونات المتنوعة، المتنافرة في بعض الأحيان، فإن ثمة وحدة عميقة تؤلف بين هذه العناصر، وتنحصر فيها هذه المکونات المتناثرة المتنافرة لتصبح کياناً واحداً متجانساً، لا تفكك فيه, ولاتنافر, استطاع شاعرنا من إدخال فنية الوحدة في قصائده الحديثة وبوعي تام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى