الجوع ولا العمى !

صبري الموجي | كاتب مصري

في نهايةِ بيتنا القديم ذي الطابق الواحد، انتصب سلمُنا الخشبي، وكان عبارة عن فرعين مُستقيمين من الخشب، تربط بينهما قواطعُ خشبية، تم تثبيتُها بمسامير علي الفرعين الرأسيين بمسافات متساوية، ليست بالواسعة ولا الضيقة؛ لتُساعد من يستخدمه في الصعود والهبوط في سهولة ويسر .

أخبروني بأنني ابنُ (سبعة)، فكنتُ في صغري نحيلا ضعيفا، جلدًا علي عظم، ليس بينهما لحم، أسبحُ في جلبابي، وتُعدُ ضلوع قفصي الصدري بالضلع، هكذا كانت تقول لي أمي وأنا أمامها في (طست ) الحموم .

كانت أمي حريصة علي أن تُلبي لي كل ما أطلب، ولو كان لبن العصفور، فتخرج تهرول ولا تعود إلا به .

أوقعتني شقاوتي وتنطيطي المستمر في مشاكل عدة، وتسببا كثيرا في استنفاد طاقتي، وشعوري بالجوع، والذي طالما ساعدتني أمي في التغلب عليه قبل تحضير الطعام، برغيف مغموسٍ في صلصة الطماطم الساخنة، أو مملوء بالسمن والسكر، وإن لم أرغب في هذا ولا ذاك، تدفعني إلي السطح لإحضار بيضة تسلقها لي لأتصبر حتي ينضج الطعام .

كانت عينيَّ تتجه إلي ذلك السلم الواقف كفنار كلما شعرتُ بالجوع، فيطمئن قلبي، إذ إن صعوده يقودني إلي (عُشة) الدجاج، حيث الأمن الغذائي، تلك العُشةُ التي ما عدت منها خائبا يوما، إلا في ذلك اليوم الذي لا أنساه .

بعد غَطسة شمس أحد الأيام، وقبل أن ينسج الليل خيوط الظلام فيخيم الصمت والسكون، صعدتُ إلي (عشة) الدجاج، أفتح بابها رويدا رويدا، وأدخلها وأني أمشي علي أطراف أصابعي؛ خشية إثارة البط والأوز، فيتبعني بمنقاره الحاد الطويل، أو يتباري في نوبات الصياح، فتلتفت أخواتي لما أقدمتُ عليه، ويعرفن من هو حرامي البيض، الذي بمجرد أن عرف طريق العُشة لم تظفر إحداهن ببيضة واحدة .

في هذا اليوم الذي لم (تطلع له شمس)، تسللتُ إلي عشة الدجاج، وبدلا من أن أجلس القرفصاء، مُستقبلا بوجهي، الذي سبقته يدي مكان مبيت الدجاج، لأبحث عما فيه من بيض، اتجهتُ بكليتي إلي مأوي بطة، رقدت علي مجموعة من البيض ليفقس ويُخرج بطا صغيرا .

استثار سطوي وسماجتي غضب تلك البطة المُسالمة، فقذفت للخلف ما تحت رجليها من تراب فُرن الخبيز، الذي فرشته أمي تحتها لتدفئة البيض، وإزالة رطوبة المكان .

لا أكذب إن قلتُ إن تلك البطة كانت أشبه بقناص مٌحترف لم تُخطئ رميتُه، إذ ملأت حفنتا تراب رجليها عيني، فظللت أصرخ، ويزداد الصراخ كلما حاولت أن أفتحهما.

صعدت أمي وأخواتي درج السلم في سرعة قط يلاحق فريسته، لتعرف سبب صراخي، وما إن رأوا عيني مُغمضتين تنساب منهما دموعٌ سوداء، صنعتا علي وجنتي خطين أسودين كقضبان السكة الحديد، حتي حملوني ليصبوا فوق رأسي الماء، ويغسلوا عينيَّ ليعود إليهما البصيص .

ظلت نغمة صراخي ترتفع كلما حاولت فتح عينيَّ فتضرب أمي علي صدرها، وتنخفض، فيهدأ وجيب قلبها، حتي تمكنتُ بعد لأي من فتحهما، فبدتا شديدتي الاحمرار، أشبه بشَفق الشمس قبل أن تأذن بالغروب .
انفضح أمري بعدما قصصت علي أمي وأخواتي ماحدث.
مضت الحادثة بسلام وبرئت عيني بعد موالاتها بالقطرات، والماء البارد، ومن يومها لم أعد أجرؤ علي الالتفات إلي عُشة الدجاج، حتي وإن كدت أموتُ جوعا، وكلما نبح ببطني كلبُ الجوع أسكتُه بعبارة : (الجوع ولا العمى) !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى