وصارت كلَّها ذكورا !!

صبري الموجي| رئيس التحرير التنفيذي لجريدة عالم الثقافة

فيٍ قريةٍ اشتهرتْ بحُب العمل، والسعي وراء لقمة العيش، لا فرقَ في ذلك بين رجلٍ وامرأة ، طفلٍ أو فتاة، وجد الثلاثةُ أنفسَهم من طينة غيرِ طينة هؤلاء البشر، الذين عَرفوا كيف يأتون بالقرش من (حَنك السبع)، فرثوا لحالهم، وقالوا لابد أن نُفتشَ عن حرفةٍ تكون مصدرا للدخل، وهواية لنا نُضيع فيها وقت الفراغ.

وبعدَ تقليبٍ في دفاتر الذاكرة، همستُ في أُذني صديقَي.. إيهاب دياب، وجمال الفقي، باعتباري أحدَ هؤلاء الثلاثة الذين لا يفترقون إلا عند النوم، وربما نمنا سويا الليالي المُتعاقبة : ما رأيُكم لو اشترينا خليةَ نحلٍ تُحقق مُرادَنا في الربح والكسب، وجني العسل الأبيض؛ ليكون عِوضا لنا عن عسلِ قَصب السكر الأسود المُسمي (المولاس)، وتكونُ إلي جانبِ ذلك هوايةً نتعرفُ من خلالها علي عالم النحل المعروفِ بالعمل والنظام، وتكاملِ الأدوار في سيمفونية وتناغُم دون خللٍ واضطراب، بدءا من الملكة التي ما سمعنا أنها ركنت يوما لصولجان المُلك، واستغلت نفوذها، فجلستْ مُتكئةً علي كُرسي الحُكم يحُوطها الخدمُ والحشمُ، بمراوح من ريش النعام،  تذُبُ بها عن وجهها الذُباب والهوام ، وتسوقُ إليها الهواء الرطب، بل تراها مع أفرادِ الخلية يدا بيد، جِدًا وتعبا، لسانُ حالها يُرددُ قولَ القائل: لا تحسبن المجد تمرا أنت آكلُه.. لن تبلغَ المجدَ حتي تلعق الصبرا.

 مرورًا بنحلِ الشغالة الذي يعملُ علي مدار الساعة علي تنظيف الخلية وتنظيمها وحراستها، وإنتاج العسل وخلافه، إضافة إلي الذكور ودورهم في تلقيحِ الملكة وتخصيبها.

فوافق رفيقاي علي الاقتراح، وخرجنا مُسرعين يبحث كلٌ منا في حَصالةِ نقودِه، حتي جمعنا بعد لأي ثمنَ الخلية، وكانت عبارة عن صندوقٍ من الخشب، وأعدادٍ غفيرة من النحل من بينها(الملكة)، والذي التف حول غصنٍ صغير من الشجر، فصار أشبه بكوزٍ من الشاورمة حول سفود من الحديد، يتطاير حوله نحل الحراسة، وله طنين أشبه بصيحات تحذير تهدد كل من تحدثه نفسه بالاقتراب من (طرد) النحل، إضافة إلي براويز خشبية مستطيلة؛ لتُقيمَ عليها الشغالةُ بيوتها، وطاقات العسل، واشترينا معها قناعَ وجه وقفازا نحتمي بهما من لسعات النحل. 

اخترنا لوضع الخلية سطحَ بيت إيهاب دياب ذي الطوابق الخمسة، والذي وقف شامخا كفنارٍ تجاورُه بيوتٌ من الطوب اللَّبن لم يتجاوز ارتفاعها دورا أو دورين، يعلوهما طوفٌ عبارة عن أقراصٍ جافة من روث المواشي، تُستخدم كوقود لأفران الخبز  .

كان بيتُ إيهاب يطلُ من الخلف علي واحة غناء من أشجار البرتقال ومزارع القمح والبرسيم، التي يحيطها سياجٌ من أشجار الكافور، ومن ثم نضمن مصدرا لغذاء النحل يصنعُ منه عسلا حلو المذاق.

وانطلقنا نخوضُ غمار ذلك العالم، إلا أننا في تعاملنا مع النحل كنا أشبه بمن يطأ أرضا ليست له بها دراية، فتعثرت خطاه، وضل الطريق، إذ دأب كلٌ منا علي أن يلبسَ قناع الوجه وقفاز اليدين، ويهرع لفتح الخلية بحُجة تغذية النحل، وإزالة ما يواجهُه من مشكلات؛ ظانين أننا نحسن صنعا، إلا أن الأمر كان علي العكس تماما، إذ شعر النحلُ بعدم الأمان، بعد أن صارت حياتُه كتابا مَفتوحا لكلِّ منْ هبَّ ودب، وتعكر صفو الملكة وساء مِزاجها؛ مما أثر في إنتاجها من النحل، فبدلا من أن يفقس بيضُها يرقات الشغالة التي تعمل وتنتج فقس أعددا لا حصر لها من الذكور .

ورغم أن الذكر في كل العوالم الحية هو مناطُ الفخر ورمزُ العمل والتحمل، إلا أنه في عالم النحل علي خلاف ذلك، إذ إنه يكونُ دليلا علي (التمليَّة) والكسل، فيبقي الذكرُ بالخلية آكلا شاربا نائما ينتظرُ دوره الوحيد وهو تلقيحُ الملكة، مما يجعلُه عبئا غيرَ مُحتمل، يُتمني موته والخلاصُ منه.

وبالرجوع إلي من هو أخبر منا بهذا العالم، نصحَنا بإجراء اختبار لنعرف عددَ الذكور بالخلية، يتمثلُ في إخراج البرواز ونفضِه في الهواء، فتسقطُ الذكور أرضا، وتطيرُ الشغالة في الهواء، وبإجراء تلك التجربة، فجعنا المنظر، إذ سقط كلُ النحل أرضا، فعلمنا أن الخلية احتلتها الذكورُ، فآلت إلي الخراب.

فقلتُ في نفسي بعدما آيس صديقاي لابد أن أخوض غمار هذا العالم مُسلحا بالعلم؛ لأتفادي فخاخ الخطأ ومزالق الشطط،  فاستعرتُ من مكتبة المدرسة كتابا عن تربية النحل وأنواعه، وكيفية التعامل معه، عرفتُ منه أن أفضلَ أنواعه الإيطالي، لصغر حجم النحلة وقلة تغذيتها، وكثرة إنتاجها للعسل، بالإضافة إلي نشاطها، والغريب أو المؤسف، والذي دفنتُ بسببه رأسي في (عبي) ضحكا، أنني وجدتُ – ولا أدري –  أهي عنصريةٌ من مؤلف الكتاب ضد الجنس المصري أم أنها الحقيقةُ المُرة أن أسوأ أنواعه النحل المصري، لكبرِ حجم النحل، وكثرة تغذيته، فضلا عن كسل الشغالة وبلادتها، إضافة وهو ثالثة الأثافي أنه – أي النحل المصري (حرامي)، يركنُ إلي الدعة والكسل، مُعتمدا في غذائه علي حملات السطو المُسلح علي إنتاج الخلايا الأخري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى