من معالم فلسطين.. كنيسة بئر يعقوب في مدينة نابلس
المطران عطا الله حنا
تقع كنيسة بئر يعقوب على بعد 76 متراً من تل بلاطة في الجزء الشرقي من مدينة نابلس، ويمكن الوصول للبئر الذي يبلغ عمقه ٤١ متراً، عن طريق الدخول للكنيسة الموجودة على أرض الدير، ونزول الدرج إلى سردابٍ يحوي البئر الذي يصحبه ونش صغيرة، ودَلو، وأيقونات والكثير من الشموع.
ويرجع تسمية الكنيسة إلى اسم البئر نفسه، ففي سفر التكوين الإصحاح ٣٣: ١٨-٢٠ ينص على أنه عندما عاد يعقوب إلى شخيم وَخَيَّمَ أمام المدينة، اشترى الأرض التي نصب عليها خيمته وأقام مذبحاً. ويؤكد علماء الكتاب المقدس أن قطعة الأرض تلك هي نفسها التي شُيّد عليها بئر يعقوب.
أما الأهمية الدينية لكنيسة بئر يعقوب فتعود لكونها الكنيسة التي بنُيت على الأرض التي وطئتهما قدما السيد يسوع المسيح، ففي العهد الجديد في إنجيل القديس يوحنا الإصحاح ٤: ٥-٦ “يقول: فأتى إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار بقرب الضيعة التي أعطاها يعقوب ليوسف ابنه، وكان هناك عين يعقوب.” ويكمل الإنجيلي في وصف الحوار الذي دار بين السيد المسيح والمرأة السامرية (والتي دُعيت فيما بعد باسم ‘فوتيني’، ‘Photeini’ كما ورد في التقليد الأرثوذكسي) عندما كان السيد المسيح يأخذ قسطاً من الراحة بعد تعب السير وطلب منها أن تعطيه ماءً ليشرب.
ويذكر أن جرَّة الماء التي كانت تحملها المرأة السامرية لا تزال حتى الآن موجودة في الكنيسة محفوظةً في بيت من الزجاج على أحد أعمدة الكنيسة، والتي يمكن للزائر أن يراها بوضوح، كما أن جزءاً من جمجمة القديسة فوتيني محفوظةٌ بها داخل بيتٍ من الزجاج.
ويروي التاريخُ قصة صراع طويل في سبيل بناء والحفاظ على كنيسة بئر يعقوب التي يعود تاريخها إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، فأول مرة بنيت فيها كان على زمن القديسة هيلانة في القرن الرابع التي قامت ببناء ٣٦٥ كنيسة في فلسطين، لكن ما لبثت أن هدمت في القرن الخامس على يد أصحاب الثورة السامرية في نابلس وذلك في يوم عيد العنصرة حيث قُتل أول مطران لنابلس واثني عشرة كاهناً و١١،٠٠٠ مسيحياً واستولوا على الكنيسة.
وكانت المرة الثانية على يد الإمبراطور البيزنطي فلاڤيوس يستنيانوس ولكن هذه المرة سيطر عليها الفرس، الذين أيضاً سيطروا على ٣٦٤ كنيسة أخرى وقتلوا ٥٠٠٠ راهب. ثم المحاولة الثالثة كانت على يد الصليبيين في ١١٧٢ هدمت بعد هزيمتهم أمام صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين ١١٧٥، ثم في ١٨٦٠ قام مطران غزة صفرونيوس بشراء الموقع وأرجعه لِلبطريركية الأرثوذكسية المقدسية، وبدأت أعمال البناء مرة أخرى لكن هذه المرة بفعل زلزال أريحا دُمرت الكنيسة في ١٩٢٧ و اعيد افتتاح الكنيسة عام ٢٠٠٨.
أما عام ١٩٧٩ فكان شاهداً على استشهاد قدس الأرشمندريت فيلومينوس الذي كان مسؤولاً عن الكنيسة آنذاك (التي بنيت في ١٩٠٨ وكان بناؤها غير مكتملٍ في ذلك الوقت) ان استشهاد القديس فيلومينوس في عام 1979 في مدينة نابلس حدث حين كانت مجموعة إسرائيلية تعتبر بئر يعقوب بنابلس حكراً لها قد وجهت العديد من التهديدات للشهيد الأب فيلومينوس الذي ترأس دير بئر يعقوب في ذلك الحين لإجباره على إخلاء الدير، لكنه رفض الاستجابة للتهديدات واستمر في الصمود إلى أن استطاع أحد المتدينين اليهود اغتياله و ضربه بالفأس على رأسه و أستشهد على الفور في ذلك العام لإرهاب الكنيسة الأرثوذكسية ودفعها للتخلي عن بئر يعقوب. فكان رد البطريركية الأرثوذكسية واضحاً بتكليف الأب يوستينوس بحمل رسالة الشهيد فيلومينوس.
وتمّ إعلان قداستهِ في ٢٠٠٩ ولا تزال رفاته الى الآن موجودةً في ركنٍ خاص داخل الكنيسة تجترحُ العديد من العجائب.
الأب يوستينوس، حارس الكنيسة الأمين، الذي كان قد خدم سابقاً في كنيسة المهد في بيت لحم وبعدها في بيت جالا ثم في طبريا، قد جاء لمدينة نابلس في عام ١٩٨٠ (بعد استشهاد القديس فيلومينوس)، قد وضع هدف استكمال بناء كنيسة بئر يعقوب نصب عينيه مباشرة بعد أن تم تعيينه في نابلس، إلا أن أول عقبة واجهته كانت أنه لم يكن من المسموح البناء فوق الكنيسة في ذلك الوقت، ولكن بعد أن ذيع صيتُه بأنه يزود سكان المخيم المجاور بالطحين في فترة منع التجول خلال الانتفاضة، قرر الرئيس الراحل ياسر عرفات منحه وسامًا، إلا أن الأب يوستينوس لم يُرِد هذا النوع من التكريم “أنا رَجُلُ دين، ولستُ رَجُلَ سياسة” على حد تعبيره، لكن الرئيس أصر على منحه إياه تقديراً لأعماله، فوجد الكاهن أن الفرصة مهيأة لطلب أكثر ما يشغل تفكيره، وهو السماح بإعطائه تصريحاً لبناء الكنيسة، وهذا ما حصل بالضبط.
والجدير بالذكر أن الحجر الخارجي الذي بنيت منه الكنيسة كان قد أخذه الكاهن من حطام بيوت السكان التي هدمها الاحتلال، لأنه كان مهتماً بأن تكون حجارة الكنيسة قديمة وليست حديثة، وبالرغم من أن ذلك أثار شكوى وتذمر البعض إلا أن الرئيس الراحل لم يَرَ أي خطأٍ فيما فعله الكاهن. فنرى أن الأب يوستينوس عمل في أربعة مهن (على حد قوله) بجانب كونه كاهناً، إذ يقول “كنتُ مهندساً، مقاولاً، متسولاً، ورساماً”، وهو فعلاً فعلها كلها، فنجد أنه وقف على بناء وتصميم كل جزء في الكنيسة بأدق التفاصيل، وهو كان المحرك الأساسي لجمع التبرعات لأعمال البناء، وأيضاً جميع لوحات الكنيسة المرسومة والزجاج الملون ومعظم قطع الفسيفساء كانت من صنع يداه، فاستغرقته عشر سنوات لإنهاء الكنيسة من الخارج، وسنة ونصف من الداخل، لتصل الكنيسة إلى ما عليه الآن. وبالرغم من تعرضه للعدوان المتكرر والمحاولات الكثيرة لتدمير وسرقة الكنيسة، إلا أنه يرفض التراجع أو الخضوع.
كما يقامُ في كنيسة بئر يعقوب قداسٌ احتفاليٌ في الأحد الخامس من كل عام بعد عيد القيامة الذي يصادف غدا .