قراءة نقدية في قصيدة (مكاتيب جسر الأئمة) للشاعر العراقي نزار النداوي
ثناء حاج صالح | ألمانيا
في أيامنا هذه، أصبح من النادر أن نعثر على نص من الشعر الحداثي، يستحق الاهتمام به كبنية فنية مدروسة ومتقنة، وكمحتوى معنوي متكامل واضح الرؤيا ومتسق الأفكار.
القصيدة التي بين أيدينا للشاعر العراقي الكبير نزار النداوي، هي من هذا النادر الذي سيكون لنا معه وقفة تقصٍّ وتأمّل.
أولا : مفاتيح قراءة النصوص
قراءة نصّ شعري ما يجب أن تتم في ضوء شروط الجنس الأدبي (عمودي أو تفعيلي) الذي ينتمي إليه النصّ من جهة ، وفي ضوء المذهب الذي يمثِّله هذا النصّ ويتبناه من جهة أخرى. فمفاتيح قراءة الشعر العمودي لا تفتح أقفال الشعر الحداثي، بسهولة ويسر.
ولبعض النصوص الحداثية من شعر التفعيلة مفاتيح قراءة تكاد تكون خاصة بها فقط، لشدة تميُّز هذه النصوص.
فالأفضل لها ولقارئها أن يتقدّم إليها بذائقة قرائيّة خالية من البحث عن قوالب نمطية محدّدة، تعجبه في العادة؛ لأن البحث عما يشابه ما يعجبنا دائما ، عند كل قراءة لنص جديد مختلف ، يشبه اتخاذ حكم أو موقف مسبق من النص، قبل البدء بالقراءة.
عمليات البحث عما يعجبنا في العادة عند قراءة النصوص تحدث في الواقع لا شعوريا ، لأن المرء لا ينتبه إلى سطوة ميوله النفسية والذوقية عليه، من تلقاء نفسه.
لكن المهم في الأمر أن إصرارنا على ذلك البحث إنما هو بمثابة الإصرار على استعمال مفاتيح معينة هي المتوفرة في حوزتنا، لفتح أقفال غير مخصصة لها.
وباختصار: إن استخدام مفاتيح قراءة النص التقليدي من الشعر العمودي لن يفيدنا في فتح مغاليق النص الحداثي، بل سيؤدي إلى تعطيل قراءته قراءة صحيحة ومنصِفة.
ثانيا: عنوان القصيدة (مكاتيب جسر الأئمة)
في العنوان رسائل من الشاعر يسميها (مكاتيب) يوجّهها إلى جهة غير محدّدة من طرفي الصراع، واللذين يصل بينهما جسر الأئمة، والذي يمثّل بدوره بيئة القصيدة الداخلية ومسرح الحدث فيها. وهو يمتدّ (كما يشير الشاعر في عتبة نصّه) ما بين حي الأعظميّة ذي الأغلبيّة السنيّة من السكان من جهة، وحيّ الكاظميّة ذي الأغلبيّة الشيعيّة من جهة أخرى، وهما منطقتان تمثّلان في القصيدة إشارة بالغة الوضوح إلى قطبي الصراع المذهبي التعصّبي الذي يعاني منه العراق .
والشاعر يقدّم لقصيدته في النصّ الموزاي بتلك المعلومات، التي تفيد في فهم اللغة الإشاريّة المبنيّة عليها، والتي تحفل بها القصيدة.
ونثر الأسئلة سيأخذ مجراه في مجرى الحوار الذي يدور على الجسر . الحوار الذي اختاره الشاعر ليكون نسقا محوريّا للسياق ، فهو يؤدّي دوراً أساسياً وعميقاً في الحدث الشعري وفي البناء الفني للنص.
ثالثا: قراءة القصيدة
نحن هنا أمام نص ينتمي للشعر الوجداني بامتياز. والتزاما بانتمائه هذا فإنه يميل بعاطفته ، وبأفكاره ، وبصوره البيانيّة باتّجاه الانزياحات الدلاليّة المعنوية عموماً، لا باتجاه الوصف التصويري التجسيمي أو الحسّي. وانطلاقاً من هذا الانتماء لمذهبه الأدبي فإنه يحيط الأفكار بفضاءات عاطفيّة وفلسفيّة تنسجم مع أرواح المعاني، من حيث القلق والاضطراب ومحاولة التعايش أو من حيث الحزن والنَفَس التشاؤمي .
الشاعر نزار النداوي يلجأ إلى تكثيف المعاني في عبارات وجمل شعرية مقتضبة، يلفها الغموض اللذيذ العذب، الذي يُحفِّز ذهن القارئ على ممارسة فعل الاستكناه، والتّدبّر فيما قيل للتوّ، سعيا لإجراء مطابقة بين محتوى السؤال ومحتوى الجواب، على طول الحوار الدائر بين السائل والمجيب، الحوار الذي يمثّل جسم القصيدة وسياقها الشعري .
ولذة القراءة لهذا النص في الواقع تتأتى من فعل الاستكناه ذاك، ومن محاولة إيجاد عناصر التطابق بين السؤال والجواب . لأن عناصر التطابق قد وصلت إلى درجة لافتة من الذكاء العاطفي، والشاعرية الفلسفية. ومجرد اكتشافها يمنح القارئ شعورا حقيقيا بالنشوة والرضا . يضاف إلى ذلك أن القارئ يشعر بالرضا أيضا؛ لأنه يقف أمام نص يجيد مخاطبة القارئ، ويحترم عقله، ويمنحه فرصة حقيقية للمشاركة في صناعة النص عبر قراءته .
لأن الأسئلة المثيرة التي يطرحها الحوار في القصيدة تجعل القارئ في حالة نفسية متوجّسة توقّعا للإجابات الجميلة المدهشة. فإذا أقنعته الإجابات وكانت على مستوى جمال الأسئلة، سواء من حيث المواربة المتعمّدة في الصياغة اللغوية وأسلوب الطرح المدهش ، وهو ما يأتي على مستوى الانزياح التركيبي ، أو من حيث القفز الذهني في احتمالات الإجابات، وهو ما يأتي على سبيل الانزياح الدلالي ، فإن القارئ يشعر بالرضا والامتنان لقراءته النص.
على الجسر أنثر أسئلتي
لا أشذب معنى، ولا أستفز الإجابات
لكن أجيء احتمالاً، وأرجع فرضاً
فكل الذي في يديْ رقَمٌ لا عددْ.
دخل الشاعر إلى نصه عبر أربعة أسطر، امتازت ببنية لغوية وألفاظ ذات دلالات معنويّة أقرب إلى روح النثر منها إلى ليونة الشعر وطراوته. وقد كان فيها الشاعر محايدا عاطفيّا، خلافا لما سنراه في آخر القصيدة عندما يظهر الانفعال العاطفي العميق فيؤثّر في القارئ لشدة تأثره هو نفسه.
ونظرا للصياغة الأقرب إلى روح النثر للأسطر الأربعة الأولى ،كان من الأجدى لها لو جُعِلَت خارج النص، وعلى هامشه، لا في مَتْنه. كي لا تُحسَب على الشاعر .
وربما كان هذا الحياد العاطفي من قِبَل الشاعر مقصودا ومتَعَمَّدا من الناحية الفنية . لأن خلاف ذلك يقتضي المضي في نصّ منحاز إلى جهة معيّنة ، في حين أن رؤيا الشاعر تنصب على فكرة عدم الانحياز إلى أحد طرفي الصراع المذهبي ، انحيازا للعراق فقط.
لذا فأن الإبقاء على تلك الأسطر ضروري جدا، لتحديد سياق الأفكار ، وللتمهيد إلى عرض بيئة القصيدة الداخلية ، لكن مع ذلك فإن عدم تماشيها مع مطلب شعرية/ شاعرية النص ولغته المجنَّحة، قد أثَر سلبيّا في قراءة القصيدة، أكثر مما هو متوقع من تأثير أربعة أسطر؛ وذلك بسبب حضور هذه الأسطر في مطلع النص، حيث تقبع أخطر مناطق النص، من حيث التأثير الحاسم في جذب القارئ أو تنفيره ؛ فقراءة هذه الأسطر المحايدة الباردة قد تعطي انطباعا خاطئا للقارئ عن القصيدة ككل .
على الجسر أنثر أسئلتي
لا أشذب معنى، ولا أستفز الإجابات
لكن أجيء احتمالاً، وأرجع فرضاً
فكل الذي في يديْ رقَمٌ لا عددْ.
ما مشكلة التراكيب في هذه الأسطر ؟
مستوى التجريد العالي في أفكار هذه التراكيب جعلها أقرب في دلالاتها إلى الصياغة اللغوية العلمية الرياضية.
فهنا لا توجد صورة شعرية بيانيّة، وإنما توجد مفاهيم معنويّة فلسفيّة مجرّدة تتحرك في فضاء ذهني رياضي .
إذ أن مجمل التراكيب (أنثر أسئلتي، لا أشذب معنى، لا أستفز الإجابات، أجيء احتمالا ، أرجع فرضا ) يوحي بانهماك الشاعر في عمليات عقليّة تحليليّة تجريديّة بحتة.
والحقول الدلالية لـهذه الألفاظ (الأسئلة والإجابات والاحتمال والفرض والرقم والعدد) عندما تجتمع وتتوالى فإنها لا تخرج عن إطار النظريات الرياضية والهندسية البحتة. على الرغم من أن هذا بحد ذاته لا يخلو من الوظيفة الإيحائيّة ، والتي تدلّ على تعقيد المسائل التي تشغل بال الشاعر ، والتي سنكتشف لاحقا أنها مسائل مستعصية على الحلّ.
فكل الذي في يديْ رقَمٌ لا عددْ.
رَقْم وعدد :كلمتان ليستا مترادفتين، فالرقْم: مجرد شكل رمزي دالٍّ على العدد يستخدم في الكتابة والقراءة. ولا يخرج مفهومه عن إطار الترميز والوسم. في حين أن مفهوم العدد يتضمن قيمة محدّدة . وعندما يفصل الشاعر بينهما، ويؤكد على امتلاكه الرقم فقط دون العدد ، فالدّلالة المعنويّة تشير إلى المفارقة المخادعة المتمثلة بانقطاع الصّلة والارتباط، بين الشكل الظاهر، والمضمون ذي القيمة الحقيقة . فما هو مظنّة القيمة ليس سوى خدعة في الحقيقة.
اختار الشاعر في البدء ألا يوضّح لنا المشهد إيضاحا مسرحيا، فعلى الرغم من أن جسر الإئمة يمثل بيئة النصّ الداخليّة، إلا أن الشاعر لم يصف الجسر، ولم يصف وضعيّة حضوره عليه. ويحق لنا كقرّاء أن نتساءل، مثلاً : هل كان الشاعر واقفا على الجسر عندما نثر أسئلته؟ أم كان يتمشّى عليه (يجيئ ويرجع) بخطواته مطرقا برأسه إلى أرضيته؟
عبارة (أجيئ احتمالا وأرجع فرضا) تحتمل التأويل المعنوي كما تحتمل التأويل الحسّي الحركي.
ثم بين من ومن يدور الحوار على الجسر ؟
هذه المعلومات المحذوفة هي الفسحة الخياليّة التي يقف فيها القارئ ليملأها وفقاً لتصوراته الذاتيّة . وهي لا تدخل في أصناف الحذف البلاغي (حذف حرف أو كلمة أو جملة أو جمل عدة) ولكنها على الرغم من ذلك ينطبق عليها ما يقوله عبد القاهر الجرجاني عن الحذف في كتابه دلائل الإعجاز، إذ يقول: “هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فانك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون بيانًا إذا لم تبن”
بيد أن المنطق الاستنتاجي للقارئ في تخيُّل كيفيّة دوران الحوار يحتم عليه أن يتخيّله (على الأغلب) بين شخصين، لذا، فلنا من أن نتخيّل شخصا مرافقا للشاعر يرافقه على الجسر، ثم نصل إلى نقطة معينة، نفهم منها أن الشاعر ومرافقه إنما يهمَّان بالقيام برحلة إلى دمشق .
ويتضح لنا عندئذٍ أن أقرب صورة للمشهد قد تتمثّل بسيارة تسير على الجسر ،وفي داخلها الشاعر ومرافقه وحوار يدور بينهما .
على الجسر أنثر أسئلتي
لا أشذب معنى، ولا أستفز الإجابات
لكن أجيء احتمالاً، وأرجع فرضاً
فكل الذي في يديْ رقمٌ لا عددْ.
– حسناً، فكم العدد الآن؟
– صبحان يختصمان، وهذا العجيبُ البلدْ
– بلد؟
وكم البلدُ الآن؟
– أسطورتان وأحجيةٌ من مسدْ
أول مصادر الدهشة في القصيدة يقبع في الأسلوب البلاغي المسمى بـ(الالتفات) إذ نرى أن الشاعر قد عدّل في أسلوب استخدام أدوات الاستفهام فسأل عن الكيفية بأداة الاستفهام (كم). وهو ما أحدث مفاجأة جميلة للقارئ جعلته يقف للحظة ليراجع السؤال ، ثم أطلقت خياله للتأويل ، لفهم ما هو مراد فهمه من هذا التغيير غير المسبوق.
عندما يقول الشاعر :
فكل الذي في يديْ رقَمٌ لا عددْ
يفهم القارئ أن العدد هو خارج عن إمكانية التحديد من قِبَل الشاعر؛ لأنه ليس في يده، في حين أن الرقْم/ الرمز أو الصورة هو الشيء الوحيد المتاح له. لكن مع ذلك فإن الأسئلة التي تنهال عليه كلها تطالبه بتحديد العدد الذي ليس في يده .
فكل الذي في يديْ رقمٌ لا عددْ.
– حسناً، فكم العدد الآن؟
– صبحان يختصمان، وهذا العجيبُ البلدْ
– بلد؟
-وكم البلدُ الآن؟
مصدر ثانٍ للإدهاش هو تكرار هذا الانزياح التركيبي الذي أحدثه أسلوب (الالتفات) عبر استخدام كم الاستفهامية في غير موضعها.
فالتكرار جرى مع معظم أسئلة القصيدة، وهو ما أبقى القارئ في حالة حيرة وذهول، ضاعفت من شغفه بمتابعة القراءة . ليحصد متعة السؤال ومتعة اختراع صيغة شعرية مناسبة له ومقنعة للقارئ، بحيث يأتي الجواب مناسبا للاستفهام عن الكم، والكيف في الوقت ذاته . وهي معادلة صعبة جدا، لو فشل الشاعر في تحقيق توازنها مرة واحدة، لفقد ثقة القارئ، ولكن الشاعر كان من المهارة والحكمة على مستوى استطاع به أن يحتفظ بأنفاس اللهفة المتصاعدة عند قارئه ، مع كل سؤال وكل جواب، لأنه تفنّن في إحداث المفاجأة المقنعة شعريا في كل منهما، وعلى طول الحوار .
أما المصدر الثالث للإدهاش فهو الانزياح الدلالي الموظَّف بدقّة والذي اكتظت به الإجابات :
– حسناً، فكم العدد الآن؟
– صبحان يختصمان، وهذا العجيبُ البلدْ
لماذا صبحان اثنان ؟
هما طرفا الصراع المذهبي . وما دلالة (صبحان)؟ صبحان: الصباح الذي يكون في بدء النهار يكون منيرا في الأصل. حيث لا مذهبيّة وإنما دين واحد جاء به الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم (على حد تعبير الشاعر نفسه عن قناعته هذه خارج النص) . ثم ما الذي حدث ؟
حدث هذا الخصام بين الصبحين .
حاصل العدد في الإجابة: صبحان يختصمان وبلد عجيب مازال يتحمّل خصامهما .
لكن الشاعر لم يقل (وبلد عجيب) بل قال :
– صبحان يختصمان، وهذا العجيبُ البلدْ
فانظر إليه كيف قام بتقديم الصفة على الموصوف ليبرز أهمية الصفة التي يتمتع بها البلد ، فهو (أعجوبة) بحد ذاته ، لما يتحمَّله من جرّاء ذلك الصراع على المدى الطويل، مما استدعاه إلى تغيير التركيب اللغوي (ليجعل البلد بدلا من العجيب الذي هو بدل من اسم الإشارة ذا) .
وهذا يندرج أيضا تحت عنوان الانزياح التركيبي الذي يمتع القارئ ويخرجه من دائرة التكرار للتراكيب الشعرية المعهودة الرتيبة . ودون أن يخالف أساليب البلاغة في التقديم والتأخير ، أو قواعد النحو .
ثم فلنلاحظ حرصه على إيراد ما يدلّ على القيمة العددية عندما يجيب على سؤال مبدوء بكم الاستفهامية.
وعندما يجيب قائلا (أسطورتان وأحجية من مسد):
– بلد؟
وكم البلدُ الآن؟
– أسطورتان وأحجيةٌ من مسدْ
فإنه يخترق الدلالات المعجمية للمفردات ويدخل في طقوس المجاز، وما يتيحه من الصور البيانية، التي ترسم ما هو غير قابل للتحجيم من المعاني الآخذة في الاتساع .
لماذا اسطورتان. ولماذا اثتنا؟ ولماذا أحجية من مسد؟
أما الأسطورتان فهما اثنتان لأن طرفي الصراع اثنان (السُّنة والشيعة). ولأن ليس كل ما قيل عنهما، وكل ما تمّ توارثه عبر الأجيال موثوقا ودقيقا ومنضبطا تأريخيا، فإن كل ذلك يدخل بطريقة ما (من وجهة نظر الشاعر) في باب الأساطير.
وأما الأحجية التي هي من مسد ، فهو اللغز الذي أحال العراق إلى نار مشتعلة على الدوام بسبب الصراع بين المذهبين، وهو اللغز الذي لم يتمكن أحد من فهمه، ليقدم له حلّا فيطفئ تلك النار .
ولا يفلت الشاعر طرف الخيط من يده ، هذا الخيط الذي يتمثل بالحفاظ على صحة الإجابات كلها، والتي يجب أن يتمكن فيها الشاعر فعلا من تحديد الكم العددي. مع توفير إجابات شعرية جميلة مدهشة كيفيّة كميّة في آن معا. وفي خلال ذلك وفي أثنائه يلتفّ الشاعر على عقل القارئ ،ليظهر براعته الفائقة في اقتناص واصطياد المفارقات الشعرية الذكية التي تتزاوج فيها اللغة مع معانيها ودلالاتها .
– لا مناص عن الغربات إذاً، فكم الغربة الآن؟
هل هناك من يسأل: كم الغربة ؟
وهنا نأتي إلى المصدر الرابع للإدهاش، وهو الحذف البلاغي الذي كنا قد أشرنا إليه آنفا . فقد حذف الشاعر كلمة (تكلفة) من السؤال . وكان جميلا حذفها لتتّسق الأسئلة مع نسق الانزياح التركيبي الذي اعتمده الشاعر عموما.
إنما كان أصل السؤال: وكم تكلفة الغربة الآن؟
أما الإجابة :
– كل الحياة التي لا تعودُ
وتلك البلاد التي لا تريدُ
وتلك المنافي التي لا نريدُ
وليل الضواحي البعيدة في مدن الثلج وهْي تشفّر أسماءنا،
وتقيل الأغاني التي كبرت في تجاعيد أحلامنا،
والشموس التي سكبت دمعها في القرى
– حجر للمنافي
هذا الحجر مخصص لرجم المنافي وضربها . ومرة آخرى يحذف الشاعر الجار والمجرور (لرجم) أو ما في معناهما؛ لأن الأصل أن يقول: حجر يُرمى على المنافي/ لرجم المنافي) .
لكن مهلا، ها هنا مباغتة شعرية مدهشة باغتنا بها رد فعل المتكلم، بعد أن استمع لكل ما قيل عن تلك المنافي .
– إذن ما ذا ؟
– حجر للمنافي !
وكأنه يحاول إرضاء طفل عضّته المنافي، فقيل: ارموها بحجر كي تبتعد؟ ومن الذي يُرمى بحجر؟ الزناة يُرجمون بحجر. والكلاب يُرمون بحجر. وليختر القارئ للمنافي صفة تلائمها ليرميَها أو يرجمها بحجر .
تراكيب ذات دلالات فضفاضة، ليست متقوقعة وليست محجّمة وليست محشورة في حيّزها اللفظي. وهذه هي أجنحة اللغة التي ترفرف بها كلما حاولت القبض عليها لاحتجازها، فتغافلك وتفرُّ من قبضتك .
كم الدّمعةُ الآن؟
– نهرٌ فراتٌ هجته القرى، كلما زارها طعنته السّدودُ
خيانة من القرى للنهر الفرات، الذي هجته تلك القرى، والذي كلما زارها طعنته السدود، التي تحدّ من زيارته ومن مسيره. والطعنة تأتي من الحراب والحراب تخون ..ليس التركيب هنا خبريا بل هو إنشائي لأنه توصيف لما هو معروف وقائم، وليس لما هو طارئ ويحتاج الإخبار عنه .
– تخون الحرابُ
كم الطّعنةُ الآن؟
– جرحٌ فصيحٌ
جرح فصيح :أسلوب خبري ينبئ في التوّ واللحظة، على لسان الشاعر الذي أصبح هو نفسه الجرح المتكلم بفصاحة. وهذا هو سبب سؤاله عما يرى
– فماذا ترى؟
– وطناً مغرقاً في الرحيل، عليه العباءات سودُ
يرى هجرة الشعب خارج العراق مرتديا عباءاته السوداء، التي ترمز لأصالته المغادرة ، حينما يهاجر فيغترب لابسوها . وذاك هو سبب إهداء السلام إلى الغرباء المهاجرين والذين قد تكون الرحلة إلى الشام جزءا من هجرتهم .
– سلام على الغرباء،
متى نصل الشام؟
– نصلان من دمنا يقطران،
وتفضي الدروب إلى “باب توما”
كيف يكون الجواب على زمن الوصول إلى الشام هكذا : نصلان من دمنا يقطران ؟
لأن الجواب غير محدد، ومتى زمن الوصول ما زال غير معروف. فالنّصلان ما زالا يقطران من دمنا نحن الذين في الشام. والفعل المضارع يقطران يرسم زمنا مستمرا للحدث ، في حين أن زمن الفعل (تفضي) يشغل المستقبل لأن الواو التي سبقته هي واو عاطفة استئنافية بدلالة أنهما لم يصلا بعد إلى الشام .
– إذاً سنزور دمشق القديمةَ
– لكن على غفلة من عيون الضحايا
على غفلة من أعين ضحايا الحرب في الصراع الطائفي الذي امتد من العراق إلى الشام وطال أهلها. وفي هذا التركيب يكاد يعلن الشاعر عن مشاعر الخجل من الضحايا ، فها هو سيغافل أعينهم كي يزور الشام؛ لأنه لا يستطيع مواجهة تلك الأعين أو النظر إليها مع الشعور بالذنب العام أو الخجل مما حدث .
ولكن المشكلة في الوصول إلى الشام تكمن في الابتعاد عن العراق ، فمن سيحمل له المكاتيب التي كتبت له ؟
– وهذي المكاتيب من سوف يحملها للعراق؟
– العراق مصائره لا تجيء على رسلها،
ومتى خذلته الرجال يجيء العراق شهيداً
حرف التسويف (سوف) إشارة إلى مستقبل العراق الذي يحتاج لتلك المكاتيب ليواجه مصيره . لكن ليس للعراق مصير واحد في مستقبله. بل له ( مصائر ).
فانظر إلى حصافة دلالة صيغة الجمع هنا (مصائر) في ظل تعدّد الطوائف، والمذاهب، والجهات، والمرجعيات، التي تسكن العراق وتتنازع على السلطة فيه.
ومصائر العراق المتوقعة لا تجيء على رسلها، لا تجيء على مهلها وبهدوء، إنما تجيء مفاجئة، ومباغتة كضربات القدر، التي تطرقها الحروب المباغتة، والتي سيسقط فيها العراق شهيدا، عندما يخذله الرجال الذين يخوضون تلك الحروب الطائفية، التي تمزّقه وتدمّره وتستنزفه.
وإذا كان الأمر كذلك فيحق للمر ء أن يتساءل عن أهمية تلك المكاتيب التي كُتبت للعراق ، فما فائدتها إذن ؟
– وهذي المكاتيب ماذا؟
– تجب النهاياتُ ما قبلها
فائدة المكاتيب متعلقة بنهايات العراق. وتجبّ النهايات ما قبلها مفارقة جديدة بين المعنى المقتبس والمتصور والنهايات المقصودة بصيغ الجمع أيضا ، تلائم (مصائر) العراق التي سترديه شهيدا .
فمن الذي يترقب ذلك غير تلك الوجوه المنتظرة ؟
– والوجوه؟
– انتظارٌ عقيمٌ
انتظار عقيم ، لأنه لن يُكلل بالفرج .كما يتنبأ الشاعر ، فالسؤال عن أقدارهم ومصائرهم محتوم الإجابة :
– وأقدارهم؟
– غرباتٌ،
وأوسمة فوق صدر الزعيم
وليس يموت وراء المتاريس إلا الجنودُ
مستقبل مجهول للعراق ينتظره مع هجرة أهله؛ لأنه سيشيخ من دونهم فهل ثمة أمل لدعوتهم للعودة ؟
– أخاف تشيخ البلاد على غير أسمائهم،
فتعال نصيح بهم أن يعودوا
– نحاول، لولا مزاج الصدى،
ونفعل لولا يخون البريد
وينتهي الحوار بشعور عارم بالتشاؤم والتوجس من الفشل . يترجم رؤيا الشاعر السوداوية، لمصير العراق، وشعبه الذي شرّدته الحروب .
كلمة أخيرة
إن نظرة شاملة عامة أخيرة للنص تجعله من أثرى وأقوى النصوص التي جسدت معاناة العراق في تاريخه الحديث ؛ لأنه وبلغته الشعرية المحضة، طرح أسئلة جوهرية تستلهم من الذات الشاعرة معاناة إنسانية تاريخية ،وتلخص حقيقة الصراع الطائفي والمذهبي . وتنبّأ بما هو شائع على ألسنة الكثير من العراقيين، من تنبؤات تتعلق بوضع العراق الراهن ومصيره في ظلّ المشكلات المستعصية على الحل على المدى المنظور.
وبالتالي فإن تلك المكاتيب ما هي إلا أمنيات غير قابلة للتحقق من وجهة نظر الشاعر ووفقا لرؤياه . وهذا يعيدنا إلى أول النص حيث قال الشاعر : ,, فكل الذي في يدي رقم لا عدد,, لأن مصائر العراق خالية من العدد ذي القيمة الحقيقية مقابل ما هو ظاهر على السطح.
وهذا يؤكد التزام النص بوحدته العضوية والموضوعية وكذلك حفاظه على اتساق أفكاره وترابطها وتسلسلها المنطقي.
فيما يلي :
قصيدة (مكاتيب جسر الأئمة)
للشاعر الكبير نزار النداوي
على الجسر أنثر أسئلتي
لا أشذب معنى، ولا أستفز الإجابات
لكن أجيء احتمالاً، وأرجع فرضاً
فكل الذي في يديْ رقمٌ لا عددْ
– حسناً، فكم العدد الآن؟
– صبحان يختصمان، وهذا العجيبُ البلدْ
– بلد؟
وكم البلدُ الآن؟
– أسطورتان وأحجيةٌ من مسدْ
– لا مناص عن الغربات إذاً، فكم الغربة الآن؟
– كل الحياة التي لا تعودُ
وتلك البلاد التي لا تريدُ
وتلك المنافي التي لا نريدُ
وليل الضواحي البعيدة في مدن الثلج وهْي تشفّر أسماءنا،
وتقيل الأغاني التي كبرت في تجاعيد أحلامنا،
والشموس التي سكبت دمعها في القرى
– حجر للمنافي
كم الدّمعةُ الآن؟
– نهرٌ فراتٌ هجته القرى، كلما زارها طعنته السّدودُ
– تخون الحرابُ
كم الطّعنةُ الآن؟
– جرحٌ فصيحٌ
– فماذا ترى؟
– وطناً مغرقاً في الرحيل، عليه العباءات سودُ
– سلام على الغرباء،
متى نصل الشام؟
– نصلان من دمنا يقطران،
وتفضي الدروب إلى “باب توما”
– إذاً سنزور دمشق القديمةَ
– لكن على غفلة من عيون الضحايا
– وهذي المكاتيب من سوف يحملها للعراق؟
– العراق مصائره لا تجيء على رسلها،
ومتى خذلته الرجال يجيء العراق شهيداً
– وهذي المكاتيب ماذا؟
– تجب النهاياتُ ما قبلها
– والوجوه؟
– انتظارٌ عقيمٌ
– وأقدارهم؟
– غرباتٌ،
وأوسمة فوق صدر الزعيم
وليس يموت وراء المتاريس إلا الجنودُ
– أخاف تشيخ البلاد على غير أسمائهم،
فتعال نصيح بهم أن يعودوا
– نحاول، لولا مزاج الصدى،
ونفعل لولا يخون البريد
2 / نيسان / 2021