كأننا عشرون مستحيل
عيسى قراقع | بيت لحم – فلسطين
النازيون الجدد يحرقون الناس في لهيب القنابل والصواريخ في قطاع غزة، يبيدون عائلات بأكملها، أصوات أطفال تحت ركام البيوت المقصوفة، دمٌ ولحمٌ وعظمٌ ونيرانٌ مشتعلة، كل جندي اسرائيلي تحول الى هتلر، دولة اسرائيل دولة هتلرية ترتكب الجرائم والحرائق وتتفوق على النازية، جيشها جيش الذبح، وصمة عار على جبين العالم والقيم والعدالة الانسانية. النازيون الجدد يستكملون سياسة التطهير العرقي التي بدأوها قبل 73 عاماً خلال النكبة، الهدمُ والطردُ والتصفيات والاعتقالات والقتل الجماعي ومحو المكان والزمان والتاريخ الفلسطيني من الذاكرة، ويتجاوز النازيون الجدد حدود الابادة ان كانت هي إبادة، ويتجاوزن قواعد الحرب إن كانت هي حرب، لم تتسع ثلاجات الموتى ولا المقابر، لم تتسع عين الكاميرا ولا البلاغة الصحفية لكل هذا الفيضان من الدم والجثث والأجساد الممزقة.
النازيون الجدد يملأون وجه العالم بالدم والمصائب والصدمات، آلاف الأطنان من القنابل تنهال فوق رؤوس السكان المدنيين في غزة، يقصفون أرضها وبحرها وطيورها ونخيلها، نازيون قادمون من جهنم، يستمتعون برؤية الدم والأشلاء المتناثرة، مقياس النصر عندهم بعدد القتلى الذين يسقطون في صفوف الفلسطينيين، تاريخ إسرائيل هو تاريخ حروب، والناس ليسوا أكثر من بنك لأهدافها الاجرامية. هل شاهد العالم كيف يخرج الموتى من تحت جدار أو أنقاض بيت او خزانة؟ الأسمنت والحديد والتراب وحليب الأطفال والعيون المفقوءة والأيدي المبتورة، الرجال والشباب والنساء والصغار، الأمهات والآباء والجيران وحبال الغسيل، الصواريخ تلاحق الظل والحمامة والابتسامة.
النكبة استفاقت من نكبتها الآن، تحركت عظام الشهداء والبيوت المنسوفة وغضب اللاجئين والمهجرين، هي انتفاضة العودة في الجليل والنقب واللد وكفر كنا وأم الفحم وعكا وحيفا وسخنين وعسقلان ويافا وبئر السبع والناصرة، انتفاضة هدمت الجدران والحدود الفاصلة، هدمت سياج ومخططات الفصل العنصري، حاصرت المستوطنين الحاقدين في القدس العاصمة، في باب العامود وباب الرحمة والشيخ جراح وسلوان والعيسوية وفي الاقصى والقيامة، تتوهج القدس بروحها الكونية وتسيل في ملحمة الصمود في غزة، تتوهج القدس في شوارع الضفة، تنتفض في الحياة وفي الموت وفي المظاهرة.
انتفاضة النكبة تحاصر دولة الاحتلال، هذه الدولة التي اقيمت كملجأ للشعب اليهودي كما تدعي، اصبحت اليوم اكثر مكان غير آمن لليهود، انتفاضة الضحايا حشرتهم في الملاجئ تحت الأرض، بيوتنا التي يسكنونها انتفضت، شوارعنا التي يمشون عليها انتفضت، حدائقنا وكواشين اراضينا، طيورنا وأغانينا، خبزنا وقمحنا وعظام اجدادنا انتفضت وليالينا العامرة.
إنه الجيل الفلسطيني الجديد، جيل افاق من غرف التحقيق، جيل كأنه عشرون مستحيل، ولد بعد اتفاقية اوسلو فاكتشف انه لازال مقيداً بالحديد، جيل خرج من السجون مصدوماً معذباً مهاناً، لا مساحة للسلام والاستقرار، حياته محصورة بين سجن النقب وسجن شطة، بين حاجز عسكري في عصيون وحاجز آخر في الجلمة، حياته رهينة لرصاصة قناص اسرائيلي وعربدة مستوطن مشبع بالتطرف والكراهية. جيل فلسطيني يدفع ثمنا غالياً في الشارع وفي المدرسة وفي المحاكم العسكرية، يطحن يومياً على يد منظومة القمع الاسرائيلية، ليس له فضاء، لا يرى امامه سوى الجدران العازلة، لا ينام، الاقتحامات والمداهمات والجنازات الكثيرة، حياة شوهها الاحتلال من الوريد الى الوريد، جيل فلسطيني يدافع عن حياته الان وعن حياته القادمة، يجمع العمر الذي مضى والعمر الذي سيأتي في قبضة واحدة.
جيلٌ فلسطيني كأنه عشرون مستحيل، لا يعرف الخوف، يحاصر تل أبيب، يفرض منع التجوال والهستيريا على من اعتقدوا انهم اكملوا مشروع الموت السياسي للقضية الفلسطينية، هل تراه وهو يسير الى الأمام؟ يقفز للأعلى، يقرع الباب، يدق الجرس، مكشوف الوجه يشعل جسده امام الدبابة ويغتسل بالضوء والحياة والصلاة. العدوان البربري على قطاع غزة وعلى مدينة القدس أسس لمرحلة سياسية جديدة، وعي هذا الجيل المنتفض أعاد للقضية الفلسطينية مكانتها وثوابتها الاساسية: العودة والحرية والكراملة والدولة والقدس العاصمة.
جيل فلسطيني كأنه عشرون مستحيلا، لم تعد الحرب والمجازر هي الحاسم في هذا الصراع وفي الهيمنة والسيطرة، سقطت كل مخططات وبرامج التدجين والانصهار والتطبيع والتذويب والأسرلة، جيل فلسطيني يتحصن داخل قلعة ذاته وفي هويته بعد أن عجز المجتمع العالمي عن توفير العدالة والحماية الدولية.
هناك ما هو أقوى من السلاح ومن الغارات الحربية وتكنولوجيا الموت والقنابل الذكية، إنها الروح الإنسانية المتوثبة عند الفلسطينيين، روح لم تتشكل في معسكر أو مصنع حربي، لا تخضع لموازين القوى والمساومات والمقايضة، روح تتحرر من لعبة الأمم، خارج التوقعات والمعادلات والحسابات الاستعمارية، روح إن تهدمت نهضت، روح إن سقطت لكنها لا تموت، روح تتمرد وتهب واقفة.
جيلٌ فلسطيني تنبأ وافتخر به الشاعر المرحوم توفيق زياد عندما قال:
كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
هنا على صدوركم باقون كالجدار
وفي حلوقكم كقطعة الزجاج، كالصبار
وفي عيونكم زوبعة من نار