قراءة في رؤية التحكيم لرواية «دائرة الأبالسة» الفائزة بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي
زياد مبارك | السودان
بدايةً، لنحاول أن نضع تعريفاً للرواية، رغم أنه لا يوجد تعريف جامع مانع لها، لأن دراسات الرواية نشأت في الحقل الفلسفي ولم يتم الاتفاق على الكثير من أشيائها ولكن لنقل: أن الرواية ما هي إلا رواية لحدث تعيشه شخصيات تؤطر هذا الحدث وهذه الشخصيات حدود زمانية وأخرى مكانية، ولكي تستقيم هذه العناصر يتولى دفة السرد راوي ينقل الحدث من طور الحكاية إلى طور الخطاب.
بالقراءة في رواية «دائرة الأبالسة» يبدو أن هذا الطور الحكائي لم ينضج إلى طوره الروائي، وذلك لأسباب:
اهتمت الرواية بتكوين الشخصيات واحداً وراء الآخر، ثم بتقديم كل شخصية مع خلفية لكل منها، وهذه الخلفيات اتخذت الطابع الوصفي وليس الحدثي، أي بطريقة أشبه بالترجمات –أشبه بما تجده في سير أعلام النبلاء للذهبي الذي يترجم فيه للشخصيات التاريخية–
هنالك نوع من الروايات تسمى بالروايات ذات الأدراج: وفيها كل شخصية من ورائها تتفرع أحداث، حتى تصل البنائية إلى حبكة/ هي شبكة من الأحداث، (أي لا يوجد حدث رئيس). وفي هذا النوع من الروايات يتم السرد بهذه التقنية باشتغال فني بصورة قصدية، يقصد الروائي أن يكتب ويشتت الأحداث في كل الاتجاهات ولا يصبها في مصب واحد. أما التشتيت الذي اتسم به السرد في «دائرة الأبالسة» استهلك نصف مساحة الرواية في تقديم خلفيات للشخصيات.. وبالتقدم في قراءة الرواية نجد أن كثير من هذه الشخصيات ليس لها أي دور هام يبرر هذا التوسع وهذا ما سبب ترهلا بائنا وبالأخص لأنها رواية قصيرة (نوفيلا) من عواملها البارعة أن تُكتب باختزال وتكثيف وحركية للأحداث وإلا فقدت خاصية التكثيف التي تميّزها.
ثم تنطلق أحداث الرواية بعد ذلك بعد أن يتكشف لعاصم في منتصف الرواية ما يحدث من فساد في المؤسسة التي يعمل بها ليتسم السرد بالخطية نحو الخاتمة وصارت الأحداث تدور بصورة مركزية عن عاصم بخلاف النصف الأول.
الروايات الحداثية، أو لنقل الحديثة بوصف أشمل، لا تعترف بمركزية البطل بمعنى أنها كسرت تلك المركزية.. ليس بالمعنى المطلق وإنما ليس على النسق الكلاسيكي الذي يدور حول بطل واحد. ولكن يحدث تناسق؛ فالبطل يكون له دور وبقية الشخصيات الثانوية والهامشية يكون لها أدوار وذلك بالتناسق. وهذا ما فُقد في رواية «دائرة الأبالسة» حيث بمجرد تقديم شخصية ما، يتم فتح ملف تعريفي عنها مهما كان دورها.
هذا يقود إلى تعليق لجنة التحكيم في الغلاف الخلفي للرواية، إذ تقول: ”وُفِق الكاتب في بناء الشخصيات بناءً فنياً محكماً“. وهذا مما يستوجب النظر!
وفي تعليق اللجنة، أشارت إلى: ”كما وظّف ضميري الغائب والمتكلم وتنقل بينهما بسلاسة ويسر“.
وهذا يقود أيضاً إلى ما افتتحت به: أن مهمة تحويل الحكاية إلى طور الخطاب يتم عن طريق الراوي. هذا الراوي هو الراوي العليم الغائب في هذه الرواية أي ليس لدينا تعدد أصوات أو تعدد للرواة.. (أي لدينا شخصيات متعددة، وراوي واحد فقط). وهذا الرواي عليم غائب عن الأحداث وغير مشارك وإنما يقوم بسردها من الخارج.
الراوي بتعدد ضمائره بين الضمائر الثلاثة: (الغائب، المتكلم، المخاطب) هو ما يصنع تعدد الرواة.. بمعنى إذا أُسند السرد إلى عاصم (بطل الرواية) في أحد الفصول، فهنا أصبح هناك راويان هما:
– راوي عليم يسرد عن عاصم وغيره من الشخصيات.
– وراوي متكلم يسرد بلسان عاصم.
فعندما تعلق اللجنة ب: ”توظيف ضميري الغائب والمخاطب، والتنقل بينهما بسلاسة ويسر”، فحقاً:
(أين الانتقال ولدينا راوي واحد فقط ضميره هو الضمير الغائب؟!).
ويبدو أن اللجنة اختلط عليها التفريق بين (الضمير النحوي) و(الضمير السردي). الضمير السردي يتعلق بالراوي ويصنع تعدد الرواة وتعدد الأصوات.. أما الضمير النحوي فهو أحد الضمائر الثلاثة المعروفة.
فمثلاً، في الحوار؛ الضمير المستخدم هو ضمير المخاطب بين المحاورين. ولكن استخدام هذا الضمير النحوي (ضمير المخاطب) لا يعنى تعدد الرواة، بل مازال الراوي العليم هو الذي ينقل لنا هذا الحوار الذي يجري بالضمير النحوي المعروف بضمير المتكلم.. ولا يعني وجود حوار في رواية براوٍ واحد (العليم) أن هناك انتقال أو سلاسة في التنقل بين الضمائر لأن الضمائر التي توصف بأن هناك حسن توظيف في الانتقال بينها هي التي تتعلق بالراوي السردي الموكل إليه نقل الحكاية إلى الخطاب الروائي.. تندرج مسألة الضمير في مبحث الصوت السردي ولها علاقة بالتبئير.. وعادة ما يستخدم الضمير في تصنيف السرد إلى سرد بضمير المتكلم وسرد بضمير الغائب، (معجم السرديات لمحمد القاضي).
يمكن أن نأخذ مثال لضمير المتكلم من الرواية:
في بداية الرواية ص٢٦:
(جلس عاصم… لاحت له ذكرى، تنازل بينه ونفسه. هل يعلم الذين يتبادلون قذفنا ككرات التنس من هنا وهناك بأوضاعنا المعيشية وحالنا؟. كان يتحدث مع نفسه).
هذا المجتزأ يمثل ما يعرف بالمونولوج التذكري وهنا لا يعتبر السرد الموكل إلى الراوي بضمير الغائب سردا بضميرين سرديين. نوع الراوي لم يتغير وإنما طبيعة السرد آلت به إلى النقل عن الشخصية وهي تتكلم مع نفسها وهي تتذكر.
تدفقت الأحداث فيها بصورة خطية مكشوفة في النصف الأخير وإلى خاتمة الرواية. الجزء الأول كان مجموعة من الحكايات التي تشتت هنا وهناك وانشغل السرد بتهيئة الرواية للحدث الرئيس (الفساد) ومغامرات عاصم لكشف هذا الفساد. وما خطط لفعله، وعلاقات هذه الشخصيات ببعضها، علاقاتها بالمؤسسة، علاقاتها بإدارة المؤسسة، تفاصيل التفاصيل، طرق التوظيف، المحسوبية، الخ الخ.. الاهتمام الشديد بتقديم صورة وافية عن هذه المنظومة وكل ما له علاقة بها من شخصيات، وأحداث تدور داخلها.. أدى إلى مراكمة كمية من الحكايات ولكن لم تصعد في شكل الخطاب الروائي الذي يتسارد ويقدم كل هذه الأشياء في إطار السرد وليس في إطار الوصف والخلفيات العريضة وراء الشخصيات.
قُدمت القراء في منتدى الرواية (المنصة الرقمية لمناقشة ومدارسة روايات الكتاب السودانيين)، الندوة رقم (٣٠).