رسائل إلى السيدة «ع» (8)

بسام الشاعر | مصر – الجيزة

الفاضلة «ع».

سلام على من أظلَّتها سحب السكون، وسكنت أرض الصمت، وبعد..

فقد اكتشفتُ بأَخَرَةٍ أنكِ جَدُّ موهوبة في الصمت، سكوتك يا «ع» موهبة تفوق موهبة «أماديوس موتسارت»( ) في الموسيقا، و«شيشرون»( ) في الخطابة، فقد صرتِ ليلًا ساكنًا لا صوت فيه ولا حراك، أنتِ سطح بحيرة هادئة في ليلة واجمة ولا أدري متى يُلقى فيها أول حصاة لتخرج عن هذا الصمت!! سكوتك كل تلك الفترة سكوتٌ كثيف غامض، أقفُ أمامه متسائلًا لمَ قد يكون! ولكن الجواب في كل مرة كان قطعة من أصل السؤال… فهو لا يخرج عن الصمت!

لا أدري أي شيء أقوله لكِ يا «ع»؛ ولكن.. لا بأس؛ فالوجود هو الآخر يبدأ من نقطة صامتة يقال لها المعرفة؛ وقانون المعرفة يذكر أن بدايتها صمت وآخرها ضجيج لا ينتهي؛ هل تأملتِ شجرة ما يا «ع» يومَ أن كانت نبتة وليدةً لينةً غضةً وهي تشقُّ الترب دافعةً أديم الأرض تريد الخروج عن بذرتها لتنظر وجه الشمس؟! ألا ترين ذاك الصمت الساكن حولها في تلك اللحظة! انظريها الآن ثانية وتأمليها؛ فإنكِ تجدين حولها ضجيجًا وحركة لا ينتهيان. وأنتِ يا «ع» سواء أكنتِ صامتةً أو خارجةً عن هذا الصمت فإنك حياةٌ ووجودٌ؛ فلتشرق شمسك أو لتغرب متى وكيف شاءت فإنها لا تخرج مهما فعلتِ عن سماء قلبي؛ إننا لا نستطيع التَّفلت من الزمن يا «ع»؛ وأنا زمن فيه تعيشين، ودرب فيه تسيرين.. وصمتك هذا يروقني لأني أعلم أنه إحدى مراحل الوجود التي يعقبها زوال الصمت.

إنْ تسألي عن حالي يا «ع»؛ فإني بخير، ولا أزال أجاور الهدوء؛ أجاوره وثمَّةَ نهر هادر يتدفق من قلبي، وفي النهر الحياة، وفي الحياة صمت وحركة! كئيبٌ هو العالم في هذا الوقت من العام يا «ع»؛ وربما هذه الكآبة بسبب من سكونه وصمته؛ فالحصاد يترك وجه الأرض عاريًا مغبرًّا حزينًا، الأشجار تقف على أعوادها من خلفها كثيف الضباب، آخر ورقة ها هي ذي تتعلق بغصن شجرة التوت والريح من حولها تحركها وتديرها لتقنعها بأن تسير معها كما فعلتْ بأخواتها من قبل، الأفق من فوقه شمس غائبة خلف الغمام لا تريد مشاهدة الأرض وقد ألبسها الخريف ثياب الحداد والكآبة!

تعلمين يا «ع».. ولتضحكي معي عسى أن تضحك الدنيا فتخرج عن صمتها وكآبتها.

بدأتُ في هذه الأيام أرسم بعض اللوحات؛ ولكني اكتشفت أني لست بالموهوب في ذلك ألبتة! فرسمي سيئ جدًّا وهو فن رديء من الدرجة العاشرة. كتبتُ وأنا في حال بين نوم ويقظة قصيدة تُنيِّف على العشرين بيتًا، وكنت أعلم وقتئذ أني في حلم، وأنا ممن يميز أنه يحلم إن أتتني الأحلام وقد أغمضت جفني؛ بل إني أحيانًا أصنع أحلامي وأديرها كيف شئتُ؛ ليلتها كررتُ القصيدة مرتين عسى أن أحفظها قبل أن أفيق، وكنت أدري كذلك أني ناسيها متى استيقظت، ووقع الذي كنتُ أحاذر! فقد استيقظت وأنا لا أستطيع تذكر حرف واحد من القصيدة.. نعم لقد نسيتها جملة! سمعت مذ أيام لحنًا موسيقيًّا عذبًا هادئًا لم أسمع به من قبل، وقد راح يردده سمعي، والغريب أني لا أعرف الموسيقا ولا أعرف كيف تؤلف! استمر اللحن ذو ثلاث الدقائق يتردد في أذني سويعة جميلة، ولكني لا أستطيع الكتابة ولا التدوين بلغة الموسيقا؛ فطار اللحن من أذني بعد مدة وضاع كما ضاعت القصيدة!

أما يمثل كل هذا صمت الوجود ونطقة يا «ع»؟ نعم.. هو عندي كذلك؛ فالوجود يسكتنا لينطقنا وينطق هو الآخر معنا، وننطق نحن أحيانًا فنسكته في دائرة لا نهائية من الحياة. اسمعي.. وأرهفي معي سمعك يا «ع»؛ عقرب ساعتي صوته حاد مرتفع مرة، وساكنٌ لا صوت له مرة أخرى؛ يبدو أنه مؤمن هو الآخر بنظرية الصمت والحركة، فاصمتي مثله مرة، ولكن تكلمي مرات!

كوني بخير من أجلي يا «ع»، والله يحفظكِ، والله يرعــــــــــاكِ!

***

الفاضلة «ع».

«هناك الكثير من الشر في العالم وفي داخل أنفسنا… هناك أشياء فظيعة».

هكذا قال «فنسنت فان جوخ»( ) في إحدى رسائله لأخيه «ثيو»، والحق أنه صادق فيما قال لحد بعيد، سألتُ نفسي كثيرًا لمَ قد يفعل الإنسان الشرَّ إن كانت فطرته التي ولد عليها تخلو من الشر، هو وُلد وفي داخله الخير وموجهات الخير؛ فلمَ لا يفعل ما فُطِرَ عليه ومن أجله! لمَ الكذب والكره والضغينة والتعدي، لم البغضاء والحسد والطمع! لم.. لم..! ولكن الجواب….

رأيتُ رجلًا يبيع آخَرَ بعضَ الأشياء التافهة، وكان يقسم له كاذبًا على جودة هذا المبيع؛ كان يكذب في بيعه وفي نفسه الكثير من الشجاعة التي لا أدري من أين تأتيه! رأيتُ بعض الصبيان مرة يضربون كلبًا ويعذبون قطة في مرة أخرى وكان في أعين هؤلاء الصبية وفي أصواتهم وصيحاتهم شيء من النشوة بذاك الذي يأتون! رأيتُ أناسًا يكرهون الخير لغيرهم وكانت أعينهم أثناء ذلك تضطرم حقدًا وغلًّا لأن تلك النعمة أصابت غيرهم ولم تصبهم! رأيتُ مجموعة من الأطفال الذين اتخذوا من الشوارع بيتًا يسرقون بنهمٍ مخيف أول ما سنحت لهم فرصة السرقة ومرت من بينهم عربة محملة بفاكهة في أثناء غفلة من صاحبها! رأيتُ رجلًا ينظر لامرأة مرَّت أمامه يتتبعها بعينيه يترصدها يقتحم جسدها ويعريها بنظرة أظنه معها لو كانا وحيدين ما تردد في الفتك بها بسبب من شهوته العفنة! رأيتُ أناسًا لا يترددون في افترائهم كل سيئ وقبيح على آخرين ولو استطاعوا أن يلصقوا بهم كل شر ما تردَّدوا؛ بل لو طالوا أرواحهم وأنفسهم لقبضوها؛ وذلك كله لا لشيء إلا لأنهم يبغضونهم ويكرهون أن يروهم في درجة أعلى! رأيتُ… لا لا، هذا يكفي يا «ع» فإني لا أقصد أن أشوه الوجود في عينييكِ، ولكن الشر بات يسكن الوجود؛ ويكفيك لإثبات ذلك نظرة تتأملين معها السلوك الإنساني، وهذا كله لا ينفي وجود الخير ولا يحكم بموته وزواله؛ لكنه يثبت أن هذا الشر شرٌّ قبيح!!

كوني بخير من أجلي يا «ع»، وأيقظي نوازع الخير ومبشراتها فيمن حولك، والله يحيطك بحفظه، والله يجعلكِ في ضمانه ورعــــايته!

*** 

الفاضلة «ع».

سلام عليكِ يا روحها العالية أينما تكونين!

هل أخبرتُكِ يا «ع» قبلُ أن كونكِ إحدى الحوريات اللائي يَسْكُنَّ جنة عدن؛ خُلقْتِ فيها لتكوني زينة من زينتها، وحسنًا يزيد في بهائها، ورحمة منها تتصل ببعضها. هل أخبرتُكِ أن تلك الفكرة باتت لا تفارقني؟! ولكن الذي أعياني -حقًّا- أيتها الحورية الصغيرة أني لستُ أدري ما الذي هبط بكِ إلى الأرض!!

لا تقولي لي أنَّكِ أكلتِ من الشجرة التي أكل منها آدم وزوجه؛ فكان عقب ذلك هبوطٌ! وإنْ كنتِ قد أكلتِ منها حقًّا؛ فلمَ لمْ تتغير طبائع الحوريات وسمتهن فيكِ كما تغيَّرتْ طبيعة أبينا وزوجه بعدما أكلا من الشجرة! أم لأنكِ حورية وهما خلق آخر، فاقتضت المفارقة مفارقة! وهل ما زالتْ تلك الشجرة موجودة هنالك أصلا!! وهل ما زالت تثمر ثمرتها المُغْوِيَة بعدُ، أم أن الثمرة موجودةٌ ولكنها ما عادت تُخرِجُ من الجنة، وأنكِ قد هبطتِ لدنياي لتكوني القمر الذي يضيء سماء قلبي! ولتكوني جنة الأرض التي يعرف بها الناس جنة السماء! لتكوني الروضَ العطْرَ الحسْنَ يزيد ويزهر.. لابد أن الأخيرة أرجح في المذهب وأقوى من الأولى في الدلالة.

ولكن هل تستطيع حورية الجنة العيش في غير جنة الحوريات! كلما خطر لي هذا الخاطر حلَّ بي الكمد!

اذكريني في قلبك يا «ع»، وكوني بخير من أجلي، والله يحفظ حوريتي الصغيرة ويرعاها!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى