رحلتي إلى القاهرة
د. مصطفى رجب
اقتضت ظروف طارئة أن أسافر للقاهرة الأسبوع الماضي بالقطار ، ركبت من بلدي (طهطا) قطارا فخما يتوقف في محطات المراكز حتى يصل إلى أسيوط ، وبعدها لا يتوقف إلا في عواصم المحافظات : المنيا ، وبني سويف ثم الجيزة .
وجدت المقعد المفرد المجاور للمقعد المحجوز لي فارغا فجلست فيه، بدأت أستكشف ماحولي فوجدت أن مقعدي الذي تركته يقع خلف رجل طوال يفوقني في الطول بمرحلة ويفوقني في الحجم بمراحل ، فقد أوتي بسطة في الكرش لا بأس بها . وعن يساره إلى جانب الشباك سيدة فضلى يبدو أنها حرمه المصون ، كانت السيدة الفضلى “تقزقز” شيئا لم أتبين ألبٌّ هو أم حمص أم فول؟
كان المقعد المفرد الذي أويت إليه – إلى أن يأتي صاحبه – “منجعصا” إلى الخلف ، وأنا من المسالمين الذين لا يحسنون رفع الكراسي وخفضها وتنوينها بل يتكومون عليها -كما هي – إيثارا للسلامة .
وحين أويت لذلك المقعد وجدت رأسي المتكئ على الكرسي كأنه في حضن السيدة التي في المقعد المفرد الذي خلفي ، لم أنظر لوجهها حين جلست ، ولكنني حين تحرك القطار من طحطا ، وأرخيت أذني لها كانت تتحدث في هاتفها بصوت عال مسموع ، وتحكي عن مواقف لها وبطولات شتى في “المتابعة” التي تباشرها على المدارس الخاصة في محافظتنا . كان صوتها هادئا حنونا تتخلله ضحكات رسمية موجزة من حين لآخر ، وكان صوتها ينبئ بأنها جميلة ساحرة هادئة كصوتها هذا الذي يتدفق متصلا وكأنها لا تفكر ولا تتدبر ولا تتخير ألفاظا دون ألفاظ كما أن لهجتها ” البحراوية ” لا تخلو من بعض السرعة ..
تابعت معها – على مدى ثلاث أو أربع محطات – معظم إنجازاتها الحاسمة ، ومواقفها الصارمة ، وسط ضحكاتها اللازمة المتواصلة. ولكن عينيَّ كانتا تتابعان تلك السيدة الفضلى التي عن يسار الرجل وهي مازالت ” تقزقز ” !! ثم رفعت زجاجة ضخمة جدا من “الفانتا ” الصفراء فشربت منها ما شاءت أن تشرب .
في محطة أسيوط يقف القطار وقتا طويلا فيتجاسر باعة شباب على الأرصفة فيدخلون للقطار يبيعون ما معهم من طعام أو حلوى أو مسليات من فول ولب وترمس وما شابه الترمس . ويبيع بعضهم أكياسا بها شرائح بطاطس جافة أو أكياسا بها طعام مجفف ..
همست السيدة الفضلى لبعلها الطويل الكثيف ذي الجلباب الأفرنجي الواسع والنظارة الطبية السميكة ، فهرول إلى الرصيف وعاد يحمل أكياسا تضم أكداسا فيها كثير من تلكم المأكولات .
أفرغ “سبع البرمبة” ما اشتراه من تلك الأكداس والأكياس بين يدي حرمه المصون فكانت تفتحها كيسا بعد كيس فتلتهم ما فيها وتعطي بعلها كيسا فيلتهمه وتعطي ابنهما الجالس على المقعد المجاور لي خلفهما كيسا فيلتهمه ..
عند محطة ملوى بالمنيا يكون قد مر ساعتان ونصف الساعة منذ جلست في القطار، لم يتوقف فيها شدقا تلكم السيدة الفضلى عن الدوران وإن توقف شدقا بعلها، من حين لآخر ، وكأنه يستريح ..
كان الاثنان الجالسان على المقعدين اللذين خلف مقعدي المجاور لي مستغرقين في الحديث بصوت لا رحمة فيه بباقي ركاب العربة ، كان صغيرهما – وهو في نحو الأربعين – يسأل ، وكبيرهما الذي لم أستطع تقدير سنه يجيب فيسرف في تفاصيل ما رآه[ من بعيد] في حرب 1948 و1956 و1967 و1973
وكانت السيدة التي خلفي قد وصلت بشكاواها إلى قداسة البابا ..
ونستكمل لاحقا …