ما سبب نكبة العرب الثقافية والفكرية؟
توفيق أبو شومر | فلسطين
غريبٌ أمرُ بقايا عرب الألفية الثالثة، فهم يزحفون عائدين إلى عصر القبائل الجاهلية، إنهم ينحدرون بسرعة فائقة إلى قاع العالم، لا لأنهم جَمَّدوا أفكارهم، وارتضوا أن يغيبوا عن الوعي، بشرب أنخاب الماضي، وليس لأنهم فقدوا القدرة على الإنتاج الفكري والفلسفي، ولا كذلك، لأنهم لم يُحسنوا ضبط إيقاع الحياة المحيطة بهم والتأثير فيها فقط؛ ولكن لأنهم أصبحوا ينبذون المختلفين عنهم في اللغة والعِرق والدين والمعتقدات!
إن كارثة العرب تتمثل اليوم في انغلاقهم على ذواتهم، وعودتهم إلى الشرانق القبلية، ونبذِ الطوائف والأعراق المختلفة عنهم في اللون والجنس والدين واللغة، وطردهم، وإجبارهم على الرحيل والهجرة !
إن أبرز مظاهر القوة في المجتمعات المتقدمة في عالم اليوم يعودُ إلى تعَدُّدِ الأعراق وتنوعها، وقدرةِ هذه المجتمعات على الاستفادة من هذا التنوع، وتوظيفه في مجال بناء أسسٍ نهضوية، ينافسون بها في مجالات التقدم والرقي!
فهاهم عربُ اليوم يعودون إلى قواقعهم القبلية من جديد، يمارسون طقوسها، ويُعزِّزون ركائزها، ويُغلِّبونها على الحضارية والقانونية وعصر التكنلوجيا الرقمية!! ففي ليبيا مثلا يتولى بعضُ وجهاء القبائل الوساطة بين المتناحرين الليبيين، ويستعملون سلطاتهم القبلية، كبديلٍ عن اللوائح والأنظمة القانونية، وهم بهذا الفعل يعودون إلى خيامهم القبلية، ويُطيحون بالقوانين واللوائح والتشريعات المدنية الحضرية!
وفي مصر دارتْ حروب داحس والغبراء، في مدينة المنيا بالصعيد، بين الأعراق المختلفة، وكان شيوخ القبائل هم مفاتيح الصلح بين المتخاصمين! وفي العراق أيضا تتولى القبائل إدارة دفة الصراع، والقتال والخصام والوئام أيضا. وفي فلسطين ما يزال الشيوخُ والوجهاء والمخاتير هم أصحاب السلطة الفعلية، في مجالات الخصام والوئام. وفي اليمن تتولى القبائل إدارة الصراع، وفي السودان، أيضا وفي بقية دول العرب، لقد ندمَ العربُ على فترة ستينيات وسبعينات القرن الماضي، حين غابت العباءات والمخاتير عن التأثير في النظام العربي العام، لأن جرعاتِ الثقافة في تلك الفترة، كانت كافية لإقرار القوانين والأنظمة لـتأسيس دُولٍ مدنية، لا مجموعاتٍ قبلية!
لم يستفد (بقايا) عرب اليوم حتى من تاريخهم الماضي، ولم يُحسنوا توظيفه ليتقدموا ويؤسسوا مجتمعا نهضويا عربيا جديدا، باستخدام الأعراق والأجناس المختلفة، لغرض الرقي والتقدم. فقد كان العصر العباسي والأندلسي من أزهى العصور في تاريخ العالم، لأنه كان عصرَ الأعراق المتعددة، وعصر استقطاب الكفاءات الأدبية والعلمية والفنية في كل مجالات الحياة، لذلك فقد افتخر العربُ بمبتدعَ قواعد لغتهم العربية الفارسي الأصل، سيبويه، أي (رائحة التُّفاح)، ومعه عددٌ كبير من فقهاء النحو والصرف من غير العرب، وباهوا العالمَ بشعراْءٍ وكُتَّاب ينتمون إلى أصولٍ مختلفة عنهم، بدءا من أبي نواس وبشار، وانتهاءً بابن الرومي وابن المقفع، وغيرهم، فقد أثْرَى هؤلاءِ ، المختلفون في الجنس والعقيدة والفكر والثقافة لغتَنا العربيةَ، بما ترجموه وحفظوه واقتبسوه من آدابهم الأولى، وكذلك فعل الفلاسفةُ والفنَّانون، من ابن سينا إلى الفارابي، وغيرهم وغيرهم!!
هاهم عربُ اليوم يعودون إلى خيامهم القبلية الأولى، يبحثون عن نقاء الأعراق، ويُطاردون حتى إخوتهم في دينهم، ممن يختلفون عنهم في المذهب والعقيدة، فقد أصبحت الحروبُ على معتنقي المذهب الشيعي مقدمة على حروب الاحتلال، وعلى النضال لقهر الفقر، والجهل، والتخلف! ونظرا لتفشي الجهل والتعصب وغسيل الأدمغة، نما في تربة الجهل المتطرفون والمتعصبون وأصبحوا يحقنون الأجيال الغضة بمضادات العنف والإرهاب، ويلقنونهم أصول التعصب ويدربونهم أساليب الانتقام، حتى من أهلهم وأقاربهم!
إن هؤلاء الجاهلين أشد خطرا على الجنس البشري من كل الأمراض المستوطنة والمستعصية، ومن كل الآمراض الاجتماعية والاقتصادية.. إن تسللهم إلى النشء في المدارس، والمؤسسات التربوية، وروضات الأطفال، هو أبشع جرائم التاريخ، لذا يجب الإعلان بأن العرب أمةٌ منكوبةٌ ثقافيا وفكريا!!