خلفيات التوحُّش الإسرائيلي
نهاد أبو غوش | فلسطين
أضاف تقرير ال”واشنطن بوست” الأميركية مجموعة من الأدلة الدامغة التي تدين إسرائيل في جريمة اغتيال الصحفية الشهيدة شيرين أبوعاقلة، وهو يضاف إلى تقارير محايدة سابقة وأبرزها تقريرا مؤسستي (سي.إن.إن) ووكالة أسوشيتد برس، وكلها إلى جانب الشهادات المحلية وصور الفيديو وتقارير خبراء الصوت والأسلحة، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك مسؤولية إسرائيل المطلقة عن اغتيال الشهيدة بقرار متعمد وعن سابق تصميم. إذن لماذا تصم دولة الاحتلال آذانها عن الإدانات الدولية وحتى أنها لا تبدي اسفها عما جرى، وتشيد حكومتها بأداء الأجهزة الأمنية حتى في قمعها لجنازة شيرين، وتواصل سياسات التوسع والاستيطان وتهويد القدس، المقترنة بأبشع جرائم القتل والإعدامات اليومية من دون أن تحسب حسابا لأحد: لا لمؤسسة قانونية أو حقوقية ولا لأي جهة دولية، ولا لتأثير هذه الجرائم على مكانة إسرائيل وسمعتها وعلاقاتها الدولية؟
تترافق هذه الإدانات مع استمرار صدور تقارير مؤسسات حقوقية موضوعية ورصينة كتقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والتي إلى جانب تقارير سابقة لمنظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش، ومنظمة “بيتسيليم” الإسرائيلية، اتهمت إسرائيل بممارسة جرائم التمييز العنصري (الأبارتهايد) وأنها تفعل كل ما في وسعها لتأبيد الاحتلال.
من الواضح أن الإدانات الدولية لا تعني إسرائيل في شيء طالما أنها تبقى في حدود الكلام المرسل في الهواء، أو مجرد حبر على ورق، ولا تتحول إلى إجراءات عملية، وحيث تحظى إسرائيل بغطاء كامل وحماية دائمة من قبل الإدارة الأميركية التي لم تكتف بالامتناع عن لوم إسرائيل، بل ها هو الرئيس جو بايدن يكرّس زيارته المرتقبة للشرق الأوسط لغاية رئيسية هي ضمان أمن إسرائيل وتفوقها الحاسم على كل دول المنطقة، واعتبارها محور الارتكاز لحلف إقليمي جديد تسعى أميركا لبنائه في مواجهة إيران ويتألف هذا “الناتو الشرق أوسطي” من عشر دول عربية إلى جانب إسرائيل.
ثمة إذن مجموعة من الظروف المحلية والإقليمية والدولية تشجع إسرائيل على مواصلة سياسات التوحُّش الدموي ضد الفلسطينيين، وأبرز هذه العوامل هو التواطؤ الدولي الذي يصل إلى حد مشاركة إسرائيل في جرائمها من خلال الموقف الأميركي المنحاز بشكل مطلق لإسرائيل، والموقف الأوروبي الذي يتشدد في ابتزاز الضحية (الفلسطينيين) والضغط عليهم لتغيير مواقفهم ن بينما أقصى ما تقدمه أوروبا هو المواقف اللفظية والمساعدات الاقتصادية الشحيحة والمشروطة، في حين تحظى إسرائيل باتفاقية شراكة إسرائيلية اوروبية تعطيها مكانة الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي من دون أن تترتب عليها أي التزامات.
وعلى الصعيد الإقليمي يعيش النظام العربي حالة من التفكك والانشغال بالذات والحروب الداخلية المدمرة من جهة، او الانخراط في محاور وأحلاف إقليمية من جهة أخرى، وتواصل دول التطبيع اندلاقها على إسرائيل من دون تحفظ، فانتقلت من مرحلة إقامة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية إلى مرحلة التحالف في مواجهة “عدو” جرى اختراعه لتبرير هذه العلاقات. لا بل إن هذه الدول منحت إسرائيل شارة القيادة لهذا النظام الإقليمي الجديد الجاري بناؤه على أنقاض النظام العربي المتهالك أصلا. صحيح أن الطموح الأميركي الإسرائيلي لبناء هذا التحالف مبالغ في تفاؤله في ضوء معارضة بعض الدول العربية المرشحة للانضمام (العراق والكويت مثلا) والمعارضة الشعبية الواسعة في معظم هذه الدول، علاوة على تحفظ السعودية صاحبة مبادرة السلام العربية، وحامية حمى الحرمين الشريفين، ولكن هذا الاتجاه الذي تدفع إليه اميركا ويجد تجاوبا لدى بعض الدول العربية يغري إسرائيل بالتمادي في عدوانها دون أي تحفظ أو حساب.
ويبقى الانقسام الفلسطيني من أهم العوامل التي تشجع إسرائيل على التمادي في عدوانها، فعلى الرغم من كل الخلافات الظاهرية والتجاذبات الحزبية في الساحة الإسرائيلية، فإن جميع المؤسسات والأجهزة الإسرائيلية تبقى موحدة في تنفيذ مشروعها الاستيطاني التوسعي بما يشمل الحكومة والمعارضة والجيش والاجهزة الأمنية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية، وحتى مؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام كلها موحدة في مواجهة الفلسطينيين المنقسمين على أنفسهم جغرافيا وسياسيا وعلى مستوى المؤسسات وبرامج الفصائل التي لكل منها استراتيجيتها الخاصة. هذا الخلل بالتحديد هو نقطة الضعف المركزية للموقف الفلسطيني حيث لا يمكن بناء موقف عربي ولا إسلامي موحد، ولا يمكن تجنيد قوى التضامن والمناصرة الدولية من دون توحيد الموقف الفلسطيني وامتلاكه استراتيجية موحدة تجمع بين أشكال المقاومة والنضال الجماهيري الممكنة من جهة وأدوات العمل السياسي والدبلوماسي والقانوني من جهة أخرى.
لا يمكن تفسير الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بمبررات عملية طارئة كالتي تدعيها الدوائر الإسرائيلية من قبيل إحباط عملية هنا أو هناك أو اعتقال مطلوبين، فالتدقيق في حصيلة القتل اليومي يظهر استهداف أطفال ونساء ومدنيين آمنين في بيوتهم وفي مركباتهم وبعض عابري السبيل ممن قادهم حظهم إلى أن يتواجدوا في طريق وحدات القتل الإسرائيلية، ولذلك فهذا التصعيد جزء من مخطط سياسي يعتمد حربا شاملة ومفتوحة بكل الأدوات، وتتكون من حلقات مترابطة تشمل القدس وباقي أنحاء الضفة وحصار قطاع غزة، وتتكامل فيها أدوات الضغط والابتزاز الاقتصادي، مع أسلحة القتل والتدمير، مع جرافات وبلدوزرات هدم منازل الفلسطينيين وبناء المستوطنات، ومصادرة الأراضي وتعطيش مئات آلاف الفلسطينيين، ومعاقبة اي مظهر من مظاهر احتضان المقاومة، ملخص هذا الحل هو فرض الاستسلام على الفلسطينيين، ودفعهم للتخلي عن حقوقهم الوطنية، وإفهامهم أن كلفة رفض مخططات الاحتلال هي كلفة باهظة جدا. أما ما تنفذه حكومة بينيت – لابيد من إجراءات قمعية من قبيل المزاودة على قوى اليمين في المعارضة فليس سوى تفصيل جزئي من مخطط مركزي شامل تتبناه أغلبية القوى السياسية الإسرائيلية ومؤسسات دولة الاحتلال.