من حكمة العطاء في الإسلام ” اليد العليا واليد السفلى “

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

ومن شواهد عظمة هذا الدين أنه لا يعالج قضية، ولا طارئا ولا داءا اجتماعيا أو نفسيا إلا ويؤصل قبله للمعاني والتعريفات، حتى لا تلتبس على الناس المفاهيم فيدخل من بينها ما ليس منها، ومع هذا الالتباس في مفهوم (العطاء)، فقديأخذ من لا يستحق من حق غيره، وتضيع حياة أناس وحقوقهم ظلما، أو هضما.. وتخبو قيمة العطاء في المجتمع إما من تطلع من ليس بصاحب حق، أو تواكل الكثرة  وتكالبهم على ما في يد غيرهم حتى يضطروهم أن يضنوا بعطاءاتهم .

يتناول الإسلام قيمة العطاء من أكثر من زاوية، أولها: الزاوية النفسية التي تحفظ للمعطي عطاءه، وتثمن قدره وأجره عند الله والناس.. وكذا تحفظ له ماله فلا يكون عرضة للتكالب والطمع، أو التطلع من الغير بأكثر مما حدد الشرع من نصاب في المال بمختلف أنواعه، مما وجبت فيه الزكاة..  فتحفظ بهذا أصل المال، كما ترسخ لفكرة الاستثمار والتداول المالي، فينمى، ولا يفنى من جراء الركود .. كما تحفظ للآخذ كذلك ماء وجهه، من غير منّ ولا أذى، فتجعل ذلك حقا ليس بمنة ولا تفضل، ولا عرضة للمنع “وفي أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم” (الذاريات).

أما من الزاوية الاجتماعية التي تحفظ للفقير (حقه) في مال الغني فتسكن نفسه أن قد أوي إلى ركن يكفله، ولا يهمله، وتسلم من مثيرات الحسد والبغض والاستشراف إلى ما في يد الغير ، أو النقمة على مجتمع يعيش بين ظهرانيه لا يرقب فيه قرابة ولا رحما، ولا إلاّ ولا ذمة.

ولذا حدد القرآن وعدد مستحقي الصدقة (الزكاة)، أصنافا وليس أشخاصا .. وهي المصارف التي لا يجوز في غيرها إنفاقها، وهذا التعديد هو من قبيل التوقيف لئلا يتداعى غير صاحب حق على حق صاحبه، ولئلا تفتح باب المسألة للناس على عواهنها فيتواكل المجتمع، متكئا على في ما في بيوت المال أو في ما عند أصحاب الأموال، فقال “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)” (التوبة ) .. وقد جعله الله  هذا الحق (فريضة) أي ليس منة من صاحب المال، ولا تدنيا من المستحقين.. كما أعقبه بالعلم والحكمة : حتى لا يتألى على الحاكم بعلمه أحد فيغير أو يبدل أو يعترض برأي ولا فعل. وكذا سماه الله حقا للمستحقين ، فقال : ” وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)” (المعارج) .

أما المسألة: فقد حفت بشروط.. وهذه الشروط محدد أصحابها في الحديث الذي في سنن أبي داود، وابن ماجة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رجلا من الأنصار جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى فيه صلى الله عليه وسلم من لا تحق له المسألة .. فساعده حتى صنع له قادوما ثم قَالَ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَلَا أَرَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا» ، فَجَعَلَ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: «اشْتَرِ بِبَعْضِهَا طَعَامًا وَبِبَعْضِهَا ثَوْبًا» ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ وَالْمَسْأَلَةُ نُكْتَةٌ فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ».

وأما الحديث الآخر ، فهو حديث قبيصة بن الحارث الهلالي، فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله: ” يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِإِحْدَى ثَلَاثٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَسَأَلَ فِيهَا حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ – أَوْ قَالَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ – ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ فَقَالُوا: قَدْ [ص:665] أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ أَوْ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ – أَوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ – ثُمَّ يُمْسِكَ وَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسَائِلِ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا ” قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا” (صحيح مسلم، والنسائي وابن حبان وغيرهم).

فلم يحل المسألة إلا لهذه الصنوف الثلاث : صاحب فقر مدقع، أي زادت حاجته على نفقته بضعف أو أكثر يشهد له عدول من قومه على شدة حاجته ، أو رجل تحمل حمالة أي ديات  قتلى ليصلح بها بين الناس، أو رجل اجتاحت ماله جائحة أو خسارة في تجارة، أو حسبانا من السماء أو غيره .. وما عدا هؤلاء فليسوا من أصحاب المسألة..

 ومن استشرفت نفسه إليها طمعا فيما عند الناس، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ما تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم” (صحيح مسلم).. وهذا من سوء عاقبة المسألة، ووقع الحياء على نفسه أمام الله وبين الناس.

“هذا.. وللحديث بقية إن شاء الله”

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى