القرش بقرشين
يكتبها: محمد فيض خالد
لم تكن الرصاصة التي اُطلِقت من مجهولٍ على زوجها؛ فأردتهُ قتيلا بينَ حَشايا الحقولِ، غيرَ البدايةِ التي خطّت لعائلتها الصّغيرة هذا المصير البائس، واستباحت طمأنينتها وهي الآمنة، ما ادّخرَ “عبد الشهيد” من حطامِ الدُّنيا، إلّا بندقيته الهندي، التي حرّزتها النيابة بعدَ الواقعةِ، ورواسبَ من كراهيةٍ، عكّرت صفو أبناء القرية، الذين ظلوا لسنواتٍ طِوال، يبغضون غلظته، ويكرهون احتمائهِ بسيدهِ صاحب الدايرة، الذي تخلى عنه، لحظة فارقت أنفاسه الحياة .
عرفه أهل الزِّمام ابن ليل، عربيدا لا يخشى فائقة الأيام، ولا غَصّة الحرمان، يُريقُ في سبيلِ قرشهِ ألف نفسٍ ونفس، والرجل عنده لا يساوي قدح قمحٍ، أو كَفَّ دقيق، وها هي بضاعته رُدّت إليهِ أضعافا في أهلِ بيتهِ، الذين ذاقوا من بعدهِ الفاقة، وجنوا ثمار ما كسبت يداه.
أضحت “سكينة” ابنة الثلاثين ربيعا وأيتامها أُحدوثة الأفواه، تتقاذفهم الأعتابُ ضنا عليهم بالمعروفِ، إذ كَيْفَ لهم أن يرعوا جبار الأمسِ في صغارهِ، أو يصونوا لحرمته كرامة، امتلأ قلبها من إناءِ الألمِ حتّى فاضَ، خاصةً بعدما راودها “حجازي” عن نفسها لقاء قروشٍ يسيرة، ثمن نصف أردب غلة، و” حجازي ” لمن يجهلهُ، مُرابي الناحية الأشهر، رجلا غليظ الكبد ، منزوع الشفقة، لا يجيد سوى عقد الصفقات، يقيم تجارته على مصّ دماء الغلابة، واستنزاف أقواتهم، لا يُقيمُ للشرفِ وزن، ولا يعرِفُ للمروءةِ طريق، مرّت الأيامُ بينَ قسوةٍ ورجاء، حتّى هَبَطَ قلبها في ينبوعِ الوحشة، وبينما هي في أحابيلِ يأسها تتخبّط، لاحظتها عناية السّماء ، على غيرِ موعدٍ، رفعت رأسها كمن يصحو من بعدِ غَفوةٍ، تسيلُ الدهشة من نظراتها، وقفَ أمامها ذات أمسيةٍ، تحتَ ضوِء المصباحِ الشَّاحب وجه جَاف التقاطيع، أجابها بلكنةٍ مستهجنةٍ في اختصار:” هذه أمانة عبد الشهيد “، قَذَفَها بصرةٍ كبيرة، طويت في جلبابٍ قديم، وفي ثوانٍ ابتلعه الظلام كحلمٍ قصير، فركت عينيها مستغربة، تُزيل عنها من هولِ المُفاجأة، تَحلّقَ الجميع حول الصُّرةِ مأخوذين، قَفَزَ صغيرها “نبيل” في الهواءِ قبل أن تُعاجِلهُ يدها في خشونةٍ، بلطمة أعادته للهدوءِ، بعدها امتلأت العيون بوهجٍ أصفرٍ براق ، كومة عظيمة من الجنيهات الذهبية، ولفائف العملةِ الورقية من كُلّ فئةٍ مربوطة بخيوطِ الدوبارة ، وخنجر تلطّخَ نصله بدمٍ قاني.
ارتجّت لمرآه، قبل أن تَعود سريعا في صرةٍ لسيرتها الأولى، تنبشُ كومة المال في جنونٍ، تمشّت الحياة من جديدٍ في البيتِ المُهمل، تبدّلت معيشتهم بعدما هبطوا من سماءِ الأحلامِ، إلى أرضِ الحقيقة.
لتجدها تهتِفُ باسمِ صاحبها صباحَ مساء تذكره؛ رحمةً وغُفرانا، تناست آثامه، طوتها مع ما طوت من ماضيهِ الغَابرِ، بيدَ أنّ صوت “حجازي” النّكير، لا ينفك يقتحم عليها خلوتها في تبجّح ٍ، يتأتّى خشنا مرذولا:” القرش بقرشين يا سنيورة”، تبسّمت وهي تدُيرُ مفتاح خزينتها، تُطالِع في زَهوٍ محتوياتها، امسكت بحزمةٍ تَفرّ أوراقها في استسلامٍ، وقد اصطَبَغَ وجهها بنضارةِ الشَّباب ، قائلة في خُيلاء:” وماله القرش بقرشين !”، لتعرِفَ القرية من بعدِ ذلك ، الحاجة ” سكينة ” المرابية الشهيرة.