” مدينة الله ” لـ” حسن حميد ” سرد يشدّ الأرض إلى السّماء (5 – 5)

أ.د/ يوسف حطّيني| ناقد وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

وفي الفولكلور الشعبي المتعلق بالعادات والألبسة وغيرها، وهو فولكلور قد يتداخل مع البعد الديني أحياناً، نطلع على بعض الألبسة والأطعمة والأشربة والعادات الفلسطينية؛ فأم أسعد بدت “بثوبها الفلسطيني المطرّز أشبه بعروس أو دمية، وبدا وجهها أكثر ضوءاً.. جلست وهي تهمهم مرحبة. قلت لها: ما أجمل هذا الثوب. قالت: إنه من أمي. هي التي طرّزته وأنا لا ألبسه إلا في الأعياد وفي حضرة الضيوف”، ص459، كما نقرأ عن قارئة الطالع والبخت في سوق أريحا، وهي تأخذ القطع النقدية من زبائنها، ثم تهمهم لمن دفعها بكلمات تسرّ خاطره، ص ص145ـ146، وعن الواشمة، وهي تشوي الإبر “على ذبالة الفانوس حتى تحمرّ رؤوسها، ثم تُدفن للحظات في كحل غامق، ثم تدور بها بخفة ورشاقة على الخطوط التي رسمتها المرأة على الأيدي”، ص146، بينما تحضر الأشربة في أكثر من موضع:

  • “يوافيني الغلام فرحان بكأس من الشراب الأصفر الصافي، أسأله: ما هذا؟ فيقول: أحلى كاسة بابونج لأحلى خواجة. أسأله مرة أخرى: بابونج؟ فيقول: زهرة برّية من هذه الجبال، ويشير نحو تلال القدس وبيت لحم، ويضيف: طعمها طيب، ورائحتها طيبة. اشرب، صحة وعافية.. قلت: تقصد الزعتر؟ قال: لا، الزعتر شيء، والبابونج شيء آخر يا خواجة”، ص106.
  • “يقف احدهم، ويقدّم لنا شراباً لذيذاً، سأله الحوذي جو عنه، فيقول: كمّون”، ص110.

أمّا اللغة الشعرية فتمكن ملاحظتها في معظم السياق الروائي، وهي تشكّل متّكأ حسن حميد للتحليق بالقارئ في أجواء السحر الفلسطيني والوجع الفلسطيني في آن، وهي تشكل ملاذه أيضاً لملء فراغات المكان التي يصعب استحضارها في أرض ماثلة في روحه، ولكنها بعيدة عن مدركاته الحسية، ففي القدس: “تجري الأسواق والحارات نحو بعضها بعضاً وتتلاقى مثل السواقي”، ص13، وها هو ذا فلاديمير، وربما الروائي، يتعبّد في محراب الجمال المقدسي:

“ها أنذا ادور في شوارع القدس وحيداً، وفي صباح باكر جداً، فأشعر أنني لم أمرّ بها من قبل، ها هي ذي كنيسة القيامة مثل طائر أرخى جناحيه في الفضاء الوسيع، ها هي ذي الأسواق التي تجاورها تدور حولها في صلاة دائمة”، ص440.

وإذ يصف السارد نبعة سلوان التي تتسع قربها الأمكنة، وتبدو أسطحة البيوت رويداً رويداً، وهنا تبدو التلال كعش من الخضرة العابقة”، ص16، تنهض النبعة صورة ماثلة من السحر، على نحو يذكّر ببركة المتوكّل التي وصفها البحتري، فالنبعة “دائرة ماء وسيعة، لمعانها يخطف الأبصار، وحصاها سجادة ذهبية الألوان. تتحرك صفحة الماء، فيتحرك الحصى في تماوجات تشبه حمحمة الخيل قبل الطراد”، ص17. 

أمّا مغارة سيدنا، حيث كان فلاديمير في مدخلها دون أن يدري ” مصدر الأضواء الشديدة التي تحيط به: السقف أو الجدران”، ص25، فإنّ الرجلين كليهما الحوذي والسارد يذوبان في سحر المكان، بينما يذوب القارئ في سحر اللغة، حتى إذا خرجا منها يستوقف فلاديميرُ الحوذيَّ:

“صعدت إلى العربة، قلت له بهلع: انتظر، نسيت قلبي داخل المغارة”، ص28. 

غير أننا يجب أن نشير في شعرية اللغة إلى أمرين: الأول: اعتماد بعض الأنساق الحكائية الصغيرة على مساحة سردية واسعة، أكثر مما تحتمل الحكاية، والثاني: وجود بعض الأنساق الحكائية الإنشائية التي تعوّق مسيرة الحكاية، للاحتفاء باللغة على حسابها، ويمكننا أن نمثّل للأمر الأول بكثير من المقاطع التي يلتقي فيها فلاديمير وسيلفا، حيث يتكرر الحدث ذاته بطرق مختلفة، ويُستعان باللغة الجميلة لتقديمة مرة بعد أخرى، ويمكن لنا اختصاراً أن نكتفي بالسياقين التاليين:

  • “فأشدها إلى صدري أكثر، وامرّغ وجهي في صفحة وجهها، يا لهذا الوجه، يا لهذا العبير، أتمتم لها: بت أشتاق إليك كثيراً، فتقول همهمة: وانا تعودت عليك.. أبعدها عني وهي بين يدي، أنظر إلى وجهها، أدقق فيه، فأراها تبتسم:، ص243.
  • “احتضنتها، واحتضنتني، يا للصفاء الذي يبغيه اثنان لا شيء بينهما سوى المحبة، ولا شيء يشد أحدهما إلى الآخر سوى الشوق. كانت تأكلني وكنت آكلها.. وحين تباعدنا أحسست أنها ما زالت على عطشها، ولعلها أحست هي أنني ما لزت على عطش”، ص245.

أمّا الإنشاء غير الحكائي الذي ينتصر للجمالي هذا حساب الحكائي، ويَكسر التوازن المرتجى بينهما، فيمكن أن نشير إلى بعض مقتبساته فيما يلي:

  • “غناء شجي يصل إلينا من عند النساء والصبايا، وأصوات نايات الرعيان تتناهى إلى أسماعنا، تتردد بترجيع بعيد، يا لانتشار قطعان الغنم والمعيز، ويا لتلك الأبقار والجواميس التي تبدو مثل نجوم في صفحة الجبل البادية”، ص30.
  • “يا إلهي، ما لهذا اليوم الذي لا يريد أن يكتمل أو ينتهي، وما لهذا الجسد الذي لا يريد الانطفاء، وما لهذه الروح التي تبدي عطشها على الدوام”، ص31.
  • “ساحرة القدس، ساحرة بيوتها ونوافذها، وأبوابها الخشبية اللامعة، وشوارعها الوسيعة، وقواسها الحجرية المنحنية مثل كف دانية فوق العابرين”، ص52.

أما اللغة الذهنية التي تجرح شعرية السرد وتنتصر للتعبير المباشر عن الأفكار، فنراها في الحوار بين فلاديمير والفتاة الشقراء التي جلست إلى طاولته في مقهى قلندية، ص62، وفي حديثه مع أم أهارون ص ص187ـ189، وفي حديثه المطوّل مع الإسرائيليين ص ص 379ـ 387، وفي المعلومات التاريخية التي يدلي بها الدليل صلاح عن القدس، ص ص200ـ203.

وفيما يتعلّق بالإيقاع السردي، تمكن الإشارة إلى ملاحظة بارزة تتعلق بترسيخ إيقاعين موضوعيين في هذه الرواية هما إيقاعا القمع والخوف، وهما إيقاعان يتولدان من بعضهما؛ إذ إن الخوف الوجودي الذي يعانيه الصهيوني في أرض ليست أرضه، يقوده إلى عنف شديد يطال البشر والشجر والحجر.

لقد ارتضى حسن حميد أن تكون رواية “مدينة الله” مسرحاً لإيقاع القمع الصهيوني، من خلال صورة “البغّالة” وهو اسم له دلالته في وحشية المحتلّ وقسوته وغبائه، فإذا تابعت أعمال هؤلاء في الرواية وجدت القمع في أبشع صوره التي لا يحتملها الوجدان البشري، من ضرب وإهانة وتعرية وغير ذلك. فثمة مشهد سردي يصف البغّالة، وهم يوقفون سيارة “ويأمرون ركّابها بالنزول، فينزلون وهم يحملون أوراقهم أوربما هوياتهم، وراحوا يتقدمون نحو الجنود. الجندي البغّال الأقرب إليهم أمطرهم بهراوته ضرباً ودفعاً، وصوته الناهر الشاتم يتعالى، ورؤوس الركّاب، وأكتافهم، وقاماتهم تتقاصر وتنحني كي لا تصيبهم هرواته الضاربة بمقتل. البغال تدور حولهم في حلقة مغلقة، والبغّالون يتسابقون على ضربهم…”، ص45. وثمة مشهد آخر أمام كنيسة القيامة، حيث يمنع البغالة الدخول إليها و”يحرسون الكنيسة  كي لا يدخل المؤمنون إليها، يحرسونها بالبغال، والكلاب، وسيارات الشرطة، والأسلحة”، ص57، وهم يسدون في مشهد ثالث “درب الآلام الذي مشاه سيدنا، والبغال تفرغ أحشاءها ومثاناتها فوق البلاطات الحجرية التي لولا الحياء لأضاءت”، ص69، كما إنهم ينتظرون يوم الجمعة؛ ليتفننوا بإهانة المسلمين، ويمنعونهم من الدخول إلى المسجد الأقصى. يقول الحوذي جو:

“اليوم يوم جمعة، وسوف تكون القدس عرضة للمناوشات والمواجهات ما بين الجنود البغّالة والمصلّين المسلمين. قلت: لماذا؟ فقال: لأن البغالة سيحدّون كعادتهم من تدفّق المصلّين على المسجد الأقصى كي لا يصلّوا فيه. سأريك بعد قليل آلاف الحواجز التي وُضعت على مبعدة كيلومترات من المسجد الأقصى كي يحول الجنود دون دخول المصلّين إلى المسجد أو الاقتراب منه”، ص130.

وهكذا تتوالى المشاهد، ويتوالى القمع للانتصار على الخوف الذي يقيم في دواخل هؤلاء. ومن الطريف أنّ القمع لا ينهي الخوف، بل يعمّقه في نفوسهم، ويجعله أسلوباً دائماً للحياة؛ ففي حوار بين أم أهارون وفلاديمير نقرأ: “تعيشون والخوف! قالت: الخوف أول الصحو آخر الطمأنينة، ولا بدّ من الخوف كي ننام مطمئنين. قلت: لكم تشبهين الجنود قرب الحواجز. قالت: كيف؟ قلت: إنت حادة وقاسية، قالت: سلخت ثلاثين سنة من عمري وانا أقف على الحواجز مثلهم، كي احرس دولة إسرائيل”، ص188.

وفي مشهد طريف يتعانق جو وفلاديمير في مطعم، فتهرع إليهما الشرطة، مستفسرة عن سبب العناق، وعندها يستغرب فلاديمير، ويستفسر عن الأمر من أحد رواد المطعم:

“وما الذي قلناه حتى أثرنا مخاوفهم؟ قال: العناق؟ قلت: وما الذي يعنيه هذا العناق: قال ربما خافوا من أنّ هذا العناق يعني الوداع الأخير فيما بيننا، وأن أحدنا سيغادر، والآخر سيظل.. كي يفجّر نفسه بالمكان”، ص ص411ـ412.

وفي مقابل هذا الإيقاع ينهض موقف مضاد، يجسّده إصرار الوجع الفلسطيني على ممارسة الحياة، من خلال مشاهد سردية متعددة، يمكن أن نشير إلى بعضها، فالأسماء طريقة رمزية للتعبير عن تحدّي الخوف الصهيوني بالاطمئنان، وهذا غلام صغير السن يعمل في مقهى صغير، بعد أن أغلق البغّالة مدرسته، يسأله فلاديمير عن اسمه، فيقول: فرحان.. إنه “فرحان” برغم القمع، وبرغم إغلاق المدرسة التي سيعود إليها حال فتحها، وأما إخوته فهم فارس وجمال وسعيد ورغيد وبهجت ونصر ونايف وفواز، وكلّ اسم من الأسماء يشير إلى حياة سعيدة مؤزرة ومنتصرة، وأخواته هنّ رمز الحياة، ووردها الذي لا يموت: وردة ونسرين وياسمين وجورية، ص105.

ويصرّ أبو جادو والد الشهداء الثمانية أن يزرع حول قبورهم ويسقي؛ ليستولد الحياة من الموت: “قل لضيوفك يا عمي، أولاد البيت، أولاد عمك أبو جادو، موجودون، ولكن في المقبرة، وحياتك يا عمّي زرعت حول قبورهم نباتات وأشجاراً لها أشكال وألوان وروائح، عمّك أبو جادو يسقيها كلّ صباح.أذهبُ كي أصبّح على الأولاد، وأسأل عنهم، ثم أسقي النّباتات، وأجلس وإياهم مسافة شرب سيكارة، أقرأ الفاتحة، وأطلب من ربنا السّترة والكرامة في الآخرة ثم أعود”، ص307، أمّا أم جادو فتؤكد أن الحياة مستمرة، وأن الشهداء لم يموتوا، حين تطلب من ضيوفها أن يدخلوا غرفة الأولاد، وغرفة البنت: “فدخلنا إليهما، فوجدنا ثيابهم معلّقة، وكأنّ أحداً منهم يهمّ بارتدائها، وكتبهم وحقائبهم منضّدة ومرتّبة فوق الطّاولة الخشبيّة، وحاجياتهم من ساعات وخواتم وأحزمة وفراشي أسنان وأقلام مرتّبة إلى جوار بعضها بعضاً”، ص308.

هذا الاطمئنان في الأرض يعاكس خوف أولئك، وهو لا يقف عند الفعل الفردي من مثل التسمية وزراعة النبات، بل يرقى إلى التكافل الاجتماعي الذي نجد مثالاً ناصعاً له وقفة الناس مع أم العز المقدسية التي تبيع المناقيش:

“في مكان أم العزّ كان بناء لمطعم يديره زوجها وألوادها، لكنّ الجنود البغّالة هدموه بالجرافات لانهم وجدوا كتابات تندد بهم وبأفعاهلم الشائنة مكتوبة على جدران المطعم ليلاً، زوجها الآن في السّجن (…) وقد تضامن الناس معهم، لهذا تراهم، في الصباح الباكر يتناولون طعام الإفطار هنا كواجب وطني”، ص132.

ولعلّ أبرز الأمثلة وأنصعها في الرد عى الخوف الإسرائيلي يأتي من المقبرة؛ حيث قبور الشهداء قادرة على الحركة، وبث الروح في الآخرين: “أي مقبرة هذه! أي دنيا هنا! أي جمال! أي سحر.. فها هي ذي القبور تبدو من بعيد تحت الأشجار وكأنها لقالق تمشي وسط حقل من العشب الأخضر”، ص310.

هكذا بدت لنا رواية الكاتب حسن حميد “مدينة الله”، تأثيث حافل بالمقدّس والوطني، يشد القارئ إلى السرد؛ ليرسّخ حضورَ مكان يشدّ الأرض إلى السماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى