الزهرة السوداء

د. أحمد حسين عثمان | مصر
أطل كل ليلة من خلال شرفتي الجانبية على حديقة صغيرة تشق فيها الأشجار طريق حياتها ، يوجد في إحدى الزوايا عود أخضر سميك لا أدري ما اسم الشجرة التي يتفرع منها لكن كل ما جذبني إليه انعزاله، وشموخه رغم الجفاف الذي يلحق الروضة من حين لآخر لدرجة يتدلى لها روؤس الزهرمعلنا استغاثة مدوية في الطرقات.. إنه يحاول أن يستمد طاقته من داخله أو يحاول استخلاص جذوة البقاء من بين المياه الراكده التي تحمل في مكوناتها عناصر الهلاك بصورة أكبر من عناصر البقاء.
لم يكن محظوظا فقد كانت جداول الماء الصغير تغمر ما حوله من الأزهار والخمائل، في حين يحاول هو أن يمد جذوره إلى أقصى نقطة لينال ما يريد أو بصورة أدق؛ لينال ما يحفظ له الوجود.
قد تعطيك الطبيعة كل شيء، ومع ذلك لا تستطيع أن تستغلها لصالحك، وقد تجعلك الظروف الصعبة أكثر حفاظا على كل قطرة تستحوز عليها، قد تحرث لكنك تحرث في المياه، وهناك مناطق بضربة واحدة فيها تستخلص ما يجعلك آمنا دون أن تريق مزيدا من العرق.
غبت عن البيت أسبوعا، وإذا بفتاة قاهرية تسكن في الدور الأرضي ، وتزرع بجوار العود زهرة صغيرة صفراء ، سررت كثيرا، وأظن أن العود هو الآخر كان سعيدا حيث البهجة والبهاء والتنوع بين الذكر والأنثى، لقد كانت الفتاة كثيرة العناية بهذه الزهرة، وكأنني أسمع المثل القائل” من أجل الورد يسقي العليق”.
وإذ بالفتاة يزداد حرسها على الزهرة ، وتزيح كل ما تجمع من الماء إليها ،والعود صامت لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة ، وإذ بمعدل النضارة فيه يقل، ولونه الأخضر يتحول إلى الصفرة، فبدا صلبا ناشفا واقفا في ثبات .
ظل ذلك العود على هذه الحالة فترة ـ وأنا أتعجب من صلابته، ومن سطوة الزهرة، واستغلالها لصمته، دفعني فتوري أن أسير بجواره، وبالغت في الفضول؛ حتى ضممته بين أصابعي كحضن مواساة يطيب خاطره، ويمنحه مزيدا من المحاولات المستميته نحو الحفاظ على الوجود، لكنني وجدته مخوخا، تهاوي من بين يدي كالهشيم الذي سرعان ما افترسته الرياح؛ فراحت تذروه في كل مكان .
إن ما تراه العين مبهجا قد يكون هو بداية الطريق للفناء، تكاثرت الأزهار، وامتلأت الحديقة من تلك السلالة ، وأصبح الناس يتزاورن حولها، ويلعنون كل من يقطف شطر زهرة منها، وكلفتهم تلك السلالة مزيدا من المياه مزيدا من القلق ونسينا ذلك العود العصامي ، الذي كان يظللنا بأقل تكلفة من المياه، وأقل مقدارا من القلق والتوتر النفسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى