أبو نواس يصنع نسقية المرأة المشؤومة
د. موج يوسف| ناقدة من العراق
لماذا تصّر الثقافة العربية على وأد النساء بكل طريقة؟ أليس في مجتمعنا حالة من التوجس والخوف من الارتباط بامرأة مات أزواجها؟
من منا لا يعرف أن المرأة كانت وما زالت تعيش في قلب القصيدة الشعرية، فلا تخرج منها إلا لضرورة يعزلها الشاعر عنها، ثم يعيدها إلى البيت مرة أخرى، ووفق شروطه أيضًا، فقد فَرضَ وصايته عليها من جانبين: اجتماعي وثقافي.
الأوّل: بحكم أن وصاية الرجال عليها، فتعدّ أحد الأمتعة الخاصة ولا يحقّ لها الاختيار أو الرفض بأمرها الخاص.
وما يُقرُ من حكم اجتماعي ينفذ بلا اعتراض أو رفض (وهذا ما سنوضحه لاحقًا).
الثاني: الثقافي هو يعزز الأول (الاجتماعي)، ويقوي من سلطانه عليها، بمعنى أنَّ الشّعر يرسّخ في أنساقه (القيم أو العيوب الاجتماعية) ويرحلها إلى المستقبل القريب أو البعيد؛ لتبقى نسقًا حاضرًا في كلّ زمان ومكان في عقل المتلقي. ولعل من بين المعتقدات الاجتماعية عند العامة المرأة المشؤومة التي تتزوج أكثر من رجل، فيموتون قبلها، وعليكم يا معشر الرجال الابتعاد عنها فهي حاملة لفيروس الموت، وكأن الروح بيدها تقبضها متى شاءت !
وهذا ما نجده عند أبي نوّاس في أبيات شعرية قالها ناصحًا لأحد الرجال الذي أقبل على الزواج بامرأةٍ ترمّلت لمرتين، وهي العابسة أخت الرشيد، ففي كتاب (أخبار أبي نوّاس لابن منظور الأنصاري ت 711 هـ) والذي حققه شكري محمود أحمد. الكتاب احتضن أخبارًا عديدة للنواسي الشاعر ومنها قصته مع العابسة بعنوان (العابسة أخت الرشيد) فيقول ابن منظور: «كانت العابسة أخت الرشيد تحت محمد بن سليمان فتوفي عنه، ثمّ تزوجها إبراهيم بن صالح فولّاه الرشيد مصر، فتوفي بها وورثته، فخطبها عيسى بن جعفر. فقال المهلهل الشاعر:
أعبّاس أنت الذعاف هاشم يصل إليه رقي النافث
قتلتْ عظيمين من هاشم وأنت على طلب الثالث
فمن ذا الذي غمّه ماله يعرض بالمال للوارث
فلم يتزوجها عيسى ولا غيره حتّى ماتت. وفيها يقول أبو نوّاس:
ألا قل لأمين الله وابن القادة الساسه
إذا ما ناكث سّرك أن تفقده راسه
فلا تقلته بالسيف وزوجه بعباسه»
إنَّ أبا نواس وثّق نسقية المرأة المشؤومة، ولا مكان لها بين الرجال، كونها تسلبُ أرواحهم فاستعمل لفظة القتل (قتلت عظيمين)، فالمرأة هنا مجرمة، بجرمٍ لم تركتبه، ولم تكُ مسوؤلة عنه لكنها تظّلُ مجرمةً.
فانصاع الرجال إلى أبي نواس ولم يتزوجوها، لعل الحجة الأقوى التي زرعها النواسي في عقول أصحابه: إنَّ العابسة امرأةٌ لا تريد من الرجال سوى أموالهم فقال (فمن ذا الذي غمّه ماله يعرض بالمال للوارث) حجة داغمة يصفع بها العامة وكلّ من يحاول الإقبال على الزواج من امرأة ترمّلت لأكثر من مرة.
ولم يكتفِ عند هذا الحدّ بل في بيته الأخير الذي ينصح فيه الأمين إذا أراد أن يقتل أحد الخونة فلا يقطع رأسهم بالسيف بل يكتفي بتزويجه للعابسة.
إن الأبيات قيلت بهذه المرأة بحالة خاصة، لكنّ النسق كالفيروس ظل عالقاً في ثوب العقل، يظهر في زمان، وهذا ما نجده في الموروث الشعبي يقال عنها (تبكي بعين وتبحث بالأخرى عن صيد جديد) عن المرأة التي ترملت لمرات، وهذا النسق النواسي نجده حتى في الرواية العربية بعصرنا الحديث، فرواية واحة الغروب للأديب المصري (بهاء طاهر) التي وظف فيها أسطورة الغولة يصور المرأة الأرملة على أنها رسول من ملك الموت، والرداء الأبيض لا تخلعه إلا بعد فوات أربعة أشهر تقبع فيها بمكان معزول، تعيش متسخة لا تستحم ولا تتزين، ولا يراها أحد، لأنها لا تزال يسكنها شبح الموت، وهي من جلبت هذا الشؤم للمتوفى زوجها. أليست هذه الرواية قريبة من فكرة أبي نواس وأن النسق ذاته؟
فلماذا تصّر الثقافة العربية على وأد النساء بكل طريقة؟ أليس في مجتمعنا حالة من التوجس والخوف من الارتباط بامرأة مات أزواجها؟ فهل قدر الموت إن حانت ساعته بيد المرأة؟
معتقدات وخرافات صنعها المجتمع ولبستها الثقافة، فمتى يتمّ تمزيقها والتخلّص منها، وترتفع القيم الإنسانية إلى سماء الوجود.