قمرُ نابلس.. رواية أليسار عمران (2)
جريدة عالم الثقافة | خاص
وجهتي الوحيدة
ليتهم يعلمونَ أنّكِ تاريخُ الدّمعِ الّذي تجمّدَ في القطبِ الشّمالي، وأنّهم يمشونَ بحتفهم إليهِ..
يشدّهم بريقُ الذّهبِ
ووجهتي الوحيدةُ .. هي وجهُكِ!
المكان – يافا – فلسطين/١٩٨٨
(أراكَ.. لكنّكَ لا تراني)
يامَن سرقتَ حبيبتي يافا الّتي ساهرتْ أمواجُها النّجومَ وراقصتْها الرّيحُ..
رأيتكَ بأمّ عيني تسرقُها من بينِ أصابعي، وتوصدُ أبوابَها بأقفالٍ رميتَها في أعماقِ البحارِ..
البارحة تسلّلتُ إليها عبْر الثّقوبِ الشّائكة..
صافحتُ وجوهَأناسِها الطّيّبين، الّتي ماتزالُ تحتفل بنكهةِ الطيّنِ..
رأيتُ مسرحَها الكبيرَ الّذي يصدحُ بأشعارِ محمّد مهدي الجواهري وأصواتِ المطربين العرب ..
كيفَ يعلنُ النّصُّ شاهدة قبره، هذا مافعلتموه أيّها الصّهاينة الأشرار!
شهيقي رنينُ أجراس الكنائسِ..
وأنا زفيرُ الصّلاة..
باسمِ الدّمعِ والموتِ والحبِّ أصلّي !
على ضفافِ الجليلِ كنتُ أعمّرُ منزلاً للشّمسِ لعلّها تولدُ من جراحي، حين قاطعتْني دوريّةُ المحتلّ في زمنٍ بعيدٍ، وطلبت من أمّي تقبيلَ خدّ قائدِ الدّوريّة تحت تهديدِ الرّصاصِ، وطلبتْ منّي أنْ أقبّلَ حماراً كان يجرُّ عربةً لمسنٍّ درويشِ!
أهرولُ إلى مدرستي تحت القصفِ..
أفرشُ بلادي ورداً من دميَ المحمَّلِ بألف قضيةٍ لم تبصرْها الشّمسُ ولم تعرضْها شاشاتُ الإعلامِ على المحطّاتِ الفضائيّة..
عناقيدُ المجرّة
– جنين/2009
_سأعودُ.. انتظريني_
بمشيئة اللهِ استودعتُكِ قلبي وذاكرتي..
اغمريني بشغافِ روحك..
وتابعي السّيرَ نحو الشّغف..
لقد تركتُ لدروبِك الوميضَ الّذي ستتبعين خطواتِه إلى عناقيدِ المجرّة..
(من أحاديثِ مريم السّبعينيّة – جنين)
ليسَ خبراً عاجلاً أن يتصدّرَ الشّاشاتِ خبرُ استشهادهِ، هو وردةٌ وعصفورٌ يحشرُ دفءَ أجنحتهِ بجدّتهِ الّتي تروي له الماضي العتيقَ..
تتحدّثُ له عن نابلس، حيفا، يافا، وجنين، تعيدُ الزّمنَ مع الموسيقا..
تنطلقُ من روحِ الجنائن (جنين) الّتي كان أهلُها يعمِّدون صباحاتهم بالانطلاقِ إلى الحقول!
جنين يا بنيّ هي أرضُ الجنائن، هي شهدُ العسلِ، وأريجُ عطرِ الجنّة..
هي قلبُ مرج بن عامر على مساحتها الّتي تعانقُ مدينةَ النّاصرةِ لتقبّلَ رأسَ حيفا، عروسَ المتوسّط.
لقد حاولوا سرقةَ ترابِنا الأحمرِ الّذي يحضنُ رطوبةَ البركَة، ويمنحُ الفلاّحين سلّةَ غذاءِ فلسطين الملأى بالتّينِ والعنبِ والصبّار والزّيتون..
من جنين يا بنّي، كنّا نصدِّر البطّيخَ إلى كلِّ الدّول العربيّة، إلى أوروبّا الّتي لم تكنْ تستوردُ سِواه!
تلك المساحةُ كانت تركيّا تؤجّرُها للمزارعين الكبار..
كان هناك ثلاثة أشخاصٍ أذكرُ منهم اللّبناني الّذي كان اسمُه سرسق أو ربمّا سرسك، الّذي استأجر أراضيَ بثمانين قرشاً للدّونم الواحد… أتصدّق!؟
في تلك الأرض كان النّاسُ لا يفطرون في بيوتهم، بل يأخذون الخبزَ والزّيتَ والشّاي ويذهبون إلى الحقول..
فتكتملُ الوجبةُ بقطف العنب والتّين والصبّار..
هكذا كانت تمضي أيّامُهم بالبركة والخير في فصل الصّيف، حتّى نسائمُ الهواء كانت برائحةٍ مختلفةٍ حين يعانقُها عطرُ نسيمِ الشّمامِ والفَقّوس والمشمش..
والحديثُ يطولُ يا بنيّ..
إنّ الصّهاينةَ يحتلّون أنقى البلادِ ليجعلوها بلاداً منكرة!
التّقويم الجديد
فلسطين – الجليل / ٢٠٠٥
سأعود.. انتظريني
بعد أن أصرخَ في أذنِ العالمِ أنّني أحبّك، سيطوي الوجودُ آخرَ صفحةٍ في تقويمه لنكوّنَ معاً ميلادَ المحبّة بتقويمٍ جديدٍ!
هنا الجليل /١٩٧٠/
حكاياتُ الجدّةِ وهي تغزلُ أطباقَ القشِّ وتلوّنُهُ بألوانٍ بديعةٍ، حكاياتٌ تشبهُ أحلامَها..
كنتُ طفلاً بعمر الوردِ حين بدأتْ أختي الصّغيرةُ بالصّراخ..
حملتْها أمّي إلى عيادة الطّبيبِ الّذي قامَ بفحصها وأخبرها، بعد إجراء الفحصِ الشّاملِ، أنّ الطّفلةَ سليمةٌ لا تعاني من أيِّ مرضٍ..
لكنّها بقيتْ تصرخُ وتصرخُ حتّى ارتعبتْ أمّي وأخذتْها إلى منزلِ جدّتي علّها تقرأُ لها بعضَ آياتِ الذّكرِ الحكيم، فتهدأُ روحُها.. وتطمئنُّ..
أذكرُ حينها أنّ جدّتي رفعتْ المخدّةَ عالياً حتّى أوشكتْ أنْ تلامسَ السّقفَ، وإذْ بأفعى سامّةٍ تخرجُ من تحت الوسادة!
كفّتْ أختي الرّضيعةُ عن الصّراخ بعدها ..
أيقنتُ حينها أنّ الطّفلَ معجزةُ الله في البشريّةِ وعلى هذا العالم أنْ ينصتَ لهُ ويتبعَهُ إلى حيثُ يرفضُ قلبُه هذا الشرَّ المنطويَ كثعبانٍ تحت مخدّةِ السّلطاتِ الفارغةِ من المضمونِ والشّعورِ!
تكملُ جدّتي حديثَها عن خبثِ المحتلِّ الّذي بدأ يتعلّمُ تراثَ فلسطين ودبكاتها لينسبها إليهِ..
مضيفاتُ شركةِ طيرانِ العال الصّهيونيّة، يلبسنَ الآن المدرقة (وهي الثّوبُ الفلسطينيُّ الكنعانيُّ) لخداع العالم على أنّ تراثَ هذه الأرض هو تراثُهم!
طبقُ القشِّ الّذي يوضَعُ عليه الخبزُ، والكنفُ الّذي يُحفظ به، أصبح الصّهاينةُ يعلّقونه في بيوتهم على أنّه تراثٌ لهم..
على محطّة الرّاديو تعترفُ عجوزٌ إسرائيليّةٌ طاعنةٌ بالخبثِ:
في عام سبعةٍ وستين، حين قصفت إسرائيلُ دمشقَ، كنتُ مع ابنتي هناك..
هربنا إلى الملجأ حينها، واختبأنا وقلوبُنا ترقصُ من الفرحِ وما إن انتهى القصفُ حتّى خرجنا نشتمُ إسرائيلَ أمامَ الأهالي في دمشقَ ونشكوها للهِ!..
إنّ الشيطانَ في قلوبهم، يزعمُأنّهُ سيُغرِقُ الحقيقةَ في طوفانَ بلا هوادةٍ أو رحمةٍ..
يؤمنونَ بالشرّ، ويتظاهرون مطالبين بالموتِ للعربِ في مسيراتهم !
يشتمون النبيَّ الأعظم، ويحاولون قتْلَ روحِ الطّفلِ، وسلخَ جلدِه ليجعلوه لباساً لهم ..
يستعيرونه إلى ميقاتٍ يحرقُ الله فيه الظّالمين ..
هناك.. على وجهِ بابِه الشّرقيِّ.. في الأقصى..
البابُ الّذي اختمرتْ جراحُه بانتظارِ عينِ القدسِ..
عساها تحرسُ في الدّجى، القمرَ من ألفِ جرحٍ أهداها الدّمعُ سبّحاتٍ.. وألف كسرٍ بقلب الطّفلِ قد جبر..
القطافُ الكبير
أتفتّحُ كمخملةٍ في حضوركِ أيّتها الشّاهقة..
أعيريني مواسمَكِ للقطافِ الكبير!
المكان: الجليل- فلسطين/١٩٨٠
نحن إرثُ أجدادِ الجليلِ الّذين فرشنا خطواتِنا ورداً على شفةِ الطّريقِ الشّائكِ وصولاً إلى المدرسةِ،حيثُ لا يحميك وطنُكَ حين تستدعيكَ دوريّةٌ صهيونيّةٌ بعد أن يصفعَكَ قائدُها على وجهِ حلمِكَ المتّقدِ ليحيلَ الطّفلَ في صدرِكَ إلى رمادٍ قبل أنْ يضغطَ على زنادِ حلمك!
نحنُ ذاكرةُ أولئكَ الّذين اتّخذوا من أشجار الزّيتونِ حرّاسَ شرفٍيعصرون حبّاتِهم في جوارحِكَ لتتّقدَ عزيمةً وقوةً في وجهِ محتلٍّ يمارسُ أقسى أنواعِ التّرهيبِ والتّعذيبِ..
طفلُ الجليل
مهمّةٌ قاسيةٌ أن تحترقَ أصابعُنا لاشتعالِ فرحِ خدّيك ..
لكنّنا..
حين نحبُّ بصدقٍ.. سنفعلُ..
ليتهم يعلمونَ لذّةَ الاحتراق!
المكان: فلسطين – الجليل
من الزّمنِ البعيدِ،
نحملُ، نحنُ الفلسطينيّين، ذاكرةَ أجدادِنا بكاميراتِ عيونِهم الّتي كانتْ تصعقُ وتبرقُ على أنواءِ الدّمعِ في عيونها بعيداً عن الفضائياتِ والإعلامِ..
النّاسُ يُقتَلونَ رمياً بالرّصاصِ لمجرّدِ أنّهم يحملون العلمَ الفلسطينيَّ..
مشاهدُ تأخُّرِ الأطفالِ في الزّمنِ القديم عن مدارسِهم، كتمُهم للبكاءِ،جنسيّةُ الأردني الّتي يكتبونها على شهاداتهم، كمن يحاولُ إفراغَ الشرايينِ من دمِها القاني..
اندلاعُ انتفاضةِ الحجارة، وتشكيلُ سلطةٍ على إثرها،
الارادةُ الصّاخبةُ للحياةِ بعد أنْ أهمل العدوُة التّعليمَ للشّعبِ الفلسطينيِّ في محاولةٍ لإغراقهِ في مستنقعات الجهلِ لتسهيلِ السّيطرة على مقدراتِ البلادِ والعباد..
جيلُ الأطفالِ الّذي قطّعَ الحطبَ للتّدفئةِ وبلّلَ أصابعَه الغضّةَ بقطراتِ الدّفء،
جيلُ الشّموعِ وصلواتِ عيونِ الأمّهات وضوءِ القمر..
ذاكرةُ شعبٍ امتلأتْ واجتهدتْ لتمنحَ جوازَ سفرٍ لطفلٍ فلسطينيٍّ تشظّى عمقُهُ عتباً على عالمٍ لا يحترمُ رجلاً إلّا إذا امتلأتْ جيوبُه أو زاد نفوذُه!
نحنُ إرثُ أبناءِ المحبّةِ الّذين اتّسعتْ دورُهم بالمحبّة كدمعةٍ انعكسَ في ملامحِها بريقُ الكونِ في مواسمِ الحصادِ وتربيةِ الماعزِ وجنيِ ثمارِ الزّيتونِ !
نحنُ أبناءُ الفجرِ الّذينَ يرتّبونَ الحجرةَ الأولى بعد الأذانِ للبدءِ في تعميرِ بلدٍ نسحبُهُ من بينِأصابعِ الغُزاةِ وقتَ رقادِ الظّالمين!
شهيدُ القدس
المكان – نابلس/فلسطين
دميَ المحمَّلُ بألفِ ذاكرةٍ سيذكّرُكم..
منذ دقيقتين كنّا نحضّرُ حلوى العيد ونبتهجُ رغم الحصارِ والحرب والظّلم..
اندلعَ حزامُ النّارِ فوقَ سماءِ مدينتا..
علا صراخُ النّساءِ والأطفالِ..
صرخَ الرّعبُ في قلبي:
لا تخافوا..
إنها مجرّدُ ألعابٍ..
تجمّعوا هنا في ساحةِ العيد..
واطمئنّوا..
مابين جولاتِ الحزامِ سمعتُ صوتَ امرأةٍ تطلقُ، في نهايةِ شهرِها التّاسع..
هرولتْ ابنتي القابلةُلتنجبَ طفلاً جميلاً في آخر لحظاتِ إعلانِ الموت على شرفاتِ المدينة !
أنا والدُ الطّفلةِ شيرين الّذي أَحضر لها لعبةَ السلم والثّعبانِ للّهوِ بها ،
وتركها عالقةً في حُلوقِكم إلى زمنٍ تفضحُ عارَكم وتنطلقُ شهيدةً أمام مرأى العالم!
الوصيّة
سأعود.. انتظريني
لأميرةٍ امتلأتْ بسرٍّ لا تعرفه،
غداً حينَ تقتربين،
سيحضنُك الهيكلُ
وستصلّين..
نعم ستصلّين!
المكان: فلسطين – نابلس/٢٠٢٢
الوصيّةُ يا رفاق :
تلكَ فلسطينُ تعزفُ دماءَ الطّينِ فيصغي قلبُ الحجارةِ..
يرقصُ رَمادُ الرّاحلينَ طرباً كلّما وُلدَ شهيدٌ تُلوّنُ ضحكتُهُ يافا..
وتحبلُ حبّاتُ الزّيتونِ في الجليل وتزغردُ غزّةُببراكينِ كبرياءٍ وعنفوان..
(ياقدسُ أهلوكِ أحبابي.. وموعدنا، أواخرُ الصّيف آنَ الكرمُ يعتصرُ)..
تعالي عطّري صبحاً أشتاقُ قبلتهُ..
وارشقي التّاريخَ في حجرٍ على وجهِ الشّياطينِ..
هذا العالمُ الجاحدُ في الضّفةِ الأخرى من العالم الّذي يموتُ انتحاراً بعدما حصلَ على كلّ أسبابِ الحياةِ!
هذا العالمُ الّذي لايعطي للوقتِ أهميّةً ليغوصَ في أعماقهِ!
نحنُ الشّعبُ الّذي صافحَ الموتَ
وألقى بنفسهِ في جبِّ السّلامِ..
خوّفَ الخوفَ
فخافَ منهُ.. واغتربْ!
الحزنُ الأصيلُ فينا، جعلنا نُنبتُ مِن جراحِنا ألفَ قضيّةٍ مزروعةٍ بالزّيتونِ والبرتقالِ..
نرفعُ كرومَنا للشّمسِ بأصبعينِ ونبتسمُ للجراحِ!
يوماً ما سيتعانقُ لاهوتُ البشريّةِ مع ناسوتِها ليحلَّ بعدها العدمُ..
سيبكي مَن امتلكَ الشّعورَ، ليفيضَ عطاءً ويَنذرَ مالَهُ ونعيمَهُ كما نذرتْ زليخةُ مالَها كلّهُ في سبيلِ اللهِ..
لتذوبَ بعمقها مع يوسفَ الصدّيقِ وترجو التّوبةَ والغفرانَ الكبير!
كان يومُ الغدِ آخرَ يومٍ في امتحانِ الشّهادة الثّانويّةِ..
أكلَ غيثُ المفتولَ (ورقَ العنب)
شربَ كأساً من اللّبنِ..
وأسرعَ يذاكر مادّةَ الفيزياء.. الّتي، طالما توقفَ عندها.. في عوالمِ الضّوءِ والأجسامِ العاتمةِ..
لطالما زحفتْ أحلامُه مع موجِ البحر بعد أن أحسنَ بلاءً في مادّةِ الكيمياء..
أعاد مراجعةَ الأبحاثِ وتأكّدَ مِن حِفظ القوانين..
احتضنَ مخدّتَه كمن ينفلتُ من جسدِه المُضنى على حافةِ التيّارِ..
إنّها فرقةُ عراضةٍ للدّبكةِ..
تحيطُ به مِن كلّ جانبٍ..
وجهُ بشرى النَّضِرُ.. شفتاها الورديتان.. خصرُها الغضُّ.. وأصابعُها العنّابُالّتي تعانقُ شغافَه!
فيضانٌ في الخارجِ،إعصارٌ.. حرائقُ.. هديرُ موجٍ يتسرّبُ منذُ آلافِ العصورِ ..
الفستانُ الأبيضُ وطقمُه الرسميُّ، سيّارتُه الفارهةُ،نظّاراتُه السّوداءُ!
أهلُ بشرى وأهلُه، في كرنفال فرحٍ لاينتهي..
أشجارُ الزّيتونِ والبرتقالِ ويافا، تراقصُ أمواجَ البحر ..
الحوريّاتُ تغازلُ العصافيرَ..
والحمامُ يشاكسُ العاشقين ..
لقد خلعَ حذاءَه وارتدى العشبَ الأخضر!..
وضعَ السّماءَ قبعةً.. وطوى بردةَ التّراب،
لعلّها تمنحه دفءَ حلمٍ لطالما راوده ..
أريدُ أن أحرّرَ الأقصى..
أريدُ أن أنام ملءَ الكونِ..