تحليق عابر لطيور الذاكرة.. أصدقاء دوليّون (14)
د. سامي الكيلاني
من منجم الذاكرة المادي، من بين الرسائل والقصاصات المخزونة تطل برأسها كأنها تتسابق مع غيرها للفوز، رسالة من صديق دولي. الرسالة مطبوعة بشكل أنيق على وجهي الورقة التي تتسبب شفافيتها بتشويش الوجه الذي تقرأه بسبب المكتوب على الوجه الآخر، ومرتبة وفق ترتيب الرسائل الرسمية، رغم أنها ليست رسمية، بل على العكس فإنها مليئة بالمشاعر الرقيقة والود والتضامن. على الزاوية اليمنى العليا العنوان والتاريخ: 59أ سانت جونز وود هاي ستريت، لندن، الخامس من كانون الثاني 1985. وتجلب معها رسالة أخرى من الشخص نفسه، تختلف عنها، مكتوبة بخط اليد، من الصعب قراءة بعض الكلمات مما يجعلك تعيد قراءة الفقرة أو السطر لتكتشف وتفك الخط وتقرأ الكلمة. التوقيع نيل.
نيل واحد من الأصدقاء الدوليين الأوائل الذين دامت الصلة معهم لفترات طويلة وكانوا مصدر دعم معنوي لك في فترات الاعتقال والإقامة الجبرية. كان من مجموعة الأصدقاء المتطوعين الذين حضروا إلى فلسطين لإعطاء دورات في اللغة الإنجليزية في جامعة النجاح الوطنية في سنواتها الأولى. كانت الدورة لزملاء من العاملين في الجامعة وآخرين من المجتمع المحلي. كان المتطوعون خمسة، كلهم أو بعضهم، أعضاء في منظمة أوكسفام الإنسانية. بقيت علاقتي لفترة طويلة بثلاثة منهم: جيم هوارد وزوجته ميفز، شخصان رائعان في طيبتهما ومواقفهما الإنسانية أكبر أعضاء الفريق سناً، ومثلهما نيل صاحب الرسالة المذكورة.
كانت الدورة مفيدة جداً، وكانت فائدتها بالنسبة لي تتمثل في الأساس في تعزيز مهارات التواصل والمحادثة أكثر من الفائدة في معرفة اللغة، إذ كان مستوى معرفتي باللغة الإنجليزية متقدماً على غالبية المشاركين، وبالتالي كانت بالنسبة لي فرصة لعمل صداقات وتواصل مع أناس دوليين وأمل في فتح باب لإكمال دراستي العليا التي قطع الاعتقال لثلاث سنوات التحضيرات التي كنت قد أخذتها لإكمالها. كان المدرب الرابع شخص مرح تتخلل مداخلاته النكتة الخفيفة، وكان من جزيرة مان الواقعة في منتصف البحر الإيرلندي بين إنجلترا وإسكتلندا وإيرلندا، وعندما طُرِح على المشاركين والمدربين ضمن تمرين للمحادثة سؤال حول أهم ما يميز المكان الذي يعيش الواحد منهم فيه، قال صاحبنا إن أهم ما يميز جزيرتهم أن قططها بدون ذنب، وهي القطط التي تنسب إليها باسم Manx، ضحكنا واعتقدنا ذلك جزءاً من مرحه، ولكنه أكد أن الأمر حقيقة، وهو كذلك. أما المدربة الخامسة والتي اختفت تفاصيل شخصيتها من الذاكرة، للأسف، سوى صورة ذلك الوجه المستدير الهادئ والشعر القصير نسبياً، فمن حقها هي الأخرى أن تذكر.
استمرت رسائل نيل لفترة أثناء معاناتي من الإقامة الجبرية التي فرضت عليّ في بلدتي يعبد، بعيداً عن بيتي وعملي في الجامعة في نابلس، ومن ثم في الاعتقالات القصيرة “الاحترازية” التي كانت تقوم بها سلطات الاحتلال خلال تلك الفترة، وفي الاعتقالات الإدارية التي يبلغ كل منها ستة شهور. استمرت رسائل نيل ثم انقطعت فجأة. بقيت صورة نيل في الذاكرة، ولكن أخباره انقطعت. بعد سنوات طويلة وخلال فترة الانتفاضة الثانية، وفي عز الحصار على مدينة نابلس، دخل نيل إلى مكتبي في جامعة النجاح الوطنية في دائرة العلاقات العامة حيث كنت أعمل مديراً للدائرة في فترة من أصعب الفترات التي مرت على الجامعة. كان ضمن وفد تضامني زائر لفلسطين، دخلوا المكتب، وتحدث أحدهم معرفاً بالوفد وبأنهم من أستراليا ومعتذراً أن هذه زيارة سريعة ويأملون العودة لزيارة أطول، وذكر اسمه، كانت مفاجأة رائعة بالنسبة لي، إنه نيل،لمعت الذاكرة، رددت متقدماً نحوه “أنا سامي الكيلاني يا نيل، هل تذكرني”، تصافحنا مرة أخرى بقوة وسط اندهاش زملاء الدائرة وأعضاء الوفد، تذاكرنا بذكريات تلك الأيام بشكل سريع، ذكريات تعود لأكثر من ربع قرن. انقضت الساعة دون أن نشعر، اعتذر بأن عليهم أن يغادروا، وافترقنا مرة أخرى على أمل اللقاء. غاب نيل، وعندما حضر في منجم الذاكرة بفضل رسالته التي طفت على السطح قبل غيرها كطفل مجدٍّ يريد التقدم على رفاقه، قررت البحث عنه في الفضاء الأزرق، بحثت عن الاسم، كانوا ثلاثة، رجحت حسب الصورة أن أحدهم هو صديقي نيل، كتبت “تحياتي، هل أنت نيل الذي أعرفه”، فكان الرد أنه هو، وعدنا للتواصل.
أثناء انقطاع الصلة بنيل استمرت علاقتي بالزوجين هوارد، وتحولت من الرسائل الورقية إلى رسائل عبر البريد الإلكتروني، كانا دائمي المتابعة لوضعي الذاتي ويسألان عن الوضع في فلسطين، كانت ميفز هي التي تكتب باسمهما، وكانت آخر رسالة منها تنقل فيها نبأ وفاة جيم، وأنه رحل بعد مرض قصير بهدوء وسلام، وانقطع التواصل مع ميفز. ربما كان ذلك بسبب ضياع حساب البريد الإلكتروني الأول الذي كنت أستعمله في التواصل معها، ولم يكن بإمكاني المبادرة للتواصل لضياع عنوانها الإلكتروني مع الحساب. بعد سنوات وصلتني رسالة من الزميلة عميدة كلية التربية في جامعتنا، أثناء وجودي في كندا في إجازة التفرغ العلمي، تقول بأنها تلقت رسالة من دكتورة بريطانية في التربية تعرض التعاون البحثي، وأنها تعرفني. كانت المرسلة الدكتورة إستر هوارد، توقعت أنها ابنة صديقيّ جيم وميفز لأنني أعرف أن لهما بنتاً بهذا الاسم، وتأكدت من ذلك عندما تواصلت معها. وبعد عودتي من إجازة التفرغ العلمي ودوامي في الجامعة كمساعد لرئيس الجامعة للشؤون المجتمعية، جاءت الدكتورة إستر لزيارة الجامعة والتقينا ثلاثتنا، أنا وعميدة كلية التربية وإستر، واتفقنا على التعاون في مشروع بحث حددنا موضوعه وعنوانه. سألتها عن والدتها ميفز، فقالت بأنها في حالة جيدة بهذا العمر، في التسعينات من عمرها، وأنها تعيش في دار للرعاية، طبعاً هذا ليس أمراً سيئاً ولا يعتبر إهمالاً بالمسن في الثقافة الغربية، وبرأيي أنه مع سلبياته التي نراها في مجتمعنا فإنه أفضل من وجود المسن في بيت الأبناء أو البنات الذين لا يستطيعون القيام بواجبات رعايته التامة، خاصة تقديم الرعاية الصحية الفضلى والشعور أن الواجب بمنظور المجتمع يحمّلهم عبئاً فوق طاقتهم. حدثت تغييرات في الجامعة، إذ استقالت عميدة كلية التربية لأن رئيس مجلس الطلبة تهجم عليها في مكتبها بصورة عنيفة وفظة ولم تقم الجامعة بمحاسبته، وبالتالي لم نستطع أن نقوم بالمشروع، وانقطعت صلتي بابنة صديقيّ ميفز وجيم مما يشعرني بالتقصير نحوها ونحو ذكرى شخصين عرفتهما وعرفت إنسانيتهما من ناحية عامة ومن ناحية وقوفهما إلى جانبي في وجه إجراءات الاحتلال الإسرائيلي ضدي وتأييدهما لحق شعبنا في الحرية والاستقلال.
هكذا هي الكتابة من مخزن الذاكرة، تبدأ من نقطة لتتشعب خطوطاً متشابكة لتشكل اللوحة التي تحلو لها، وليس من الممكن أن تمنعها من ذلك، أو أن تجعل من نفسك ضابطاً لها لتغلق قناة وتفتح أخرى بقرار سلطوي منك، إن فعلت ذلك فقدت أصالتها وبهاءها، عندئذٍ ستضطرب وتهرب من بين يديك. تلك الخيوط الجميلة تتحرك بإرادتها لتشكّل شبكة متميزة جميلة المعمار قوية الترابط كشبكة العنكبوت، ولكن بخطوط من حرير قوي، أو قل كقطعة فنية من تلك التي كانت تحيكها أمي بصنارتها، جميلة قوية، ولكن يمكن أن تنفك بسحبة واحدة إلى خيط طويل إذا سحب خيطها بطريقة غير الطريقة التي أدخلته في بناء القطعة، فالهدم أسهل من البناء، يا للأسف.
الرسالة التي فتحت الذاكرة تستريح جانباً على الطاولة بانتظار عودتي إلى الحديث عنها. المعذرة يا عزيزتي، أعترف أن لك الفضل في البدء. سأعود إليك أيتها القطعة التي تقدمت على غيرها من بين قطع المتحف، متحف الذاكرة، متحف المقتنيات الصغيرة من الأعمال اليدوية في المعتقل والرسائل وغيرها، الذي قلت عنه يوماً أنه “أفضل من متحف مدام توسو اللندني”.
جيم وميفز يتقدمان، يسحبان الخيط وينسجان جزءاً من شبكة الذاكرة، صدفة لقائي بهما بعد أعوام من تواصلهما معي بالرسائل المكتوبة التي كانت تتابع الوضع الفلسطيني، وعبروا في آخرها عن مشاركتهم الآمال بتحقق السلام بعد مؤتمر مدريد ومحادثات السلام. في العام 1994 حصلت على منحة من المجلس الثقافي البريطاني لفترة دراسية قصيرة (ثلاثة شهور) في أساليب تدريس العلوم/ الفيزياء في جامعة ليدز في مقاطعة يوركشير في المملكة المتحدة. كانت فترة مفيدة جداً من الناحية العلمية، وأثمرت في بناء علاقات مع طلبة دراسات عليا دوليين من مختلف أنحاء العالم، كان أقربهم إليّ الزملاء من جنوب إفريقيا وماليزيا، الذين بقيت علاقتي بهم عبر التراسل البريدي لفترة طويلة. كانت دورة مفيدة جداً في إثراء معرفتي في أساليب تدريس العلوم من جوانب متعددة، عادت عليّ بفائدة كبيرة في تدريسي لهذا الموضوع، وفي كتابة عدة مواضيع وأوراق عمل لمؤتمرات متخصصة في هذا المجال كمؤتمر جامعة بيت لحم حول التربية العلمية ومؤتمرات الجمعية الفيزيائية الفلسطينية، وفي الكتابة لفصلية تعليم العلوم التي كان يصدرها مركز تطوير المعلمين (الموارد)، وكنت عضو هيئة تحريرها. كانت تجربة تلك المجلة نموذجاً لقيمة التطوع، إذ كنا كأعضاء هيئة التحرير متطوعين واستطعنا إصدار خمسة أعداد فصلية، ولكنها توقفت لتوقف التمويل الذي كان يغطي طباعتها، وكان أملنا أن تملأ هذا الفراغ مجلة تصدر عن وزارة التربية والتعليم، إذ علمنا عن تشكيل هيئة من كوادر الوزارة لإصدار مجلة في تدريس العلوم والرياضيات واجتمعت اللجنة اجتماعات عديدة، سمعنا عن اللجنة وانتظرنا طويلاً ولادة العدد الأول، لكن المجلة المنشودة لم ترَ للنور. هذا الفرق بين التطوع والوظيفة.
كان برنامج دائرة التربية الدولية في كلية التربية في جامعة ليدز يشمل إلى جانب المساقات الدراسية تشكيل مجموعات ثقافية من طلبة من مختلف البلدان يشرف على كل مجموعة منها أستاذ ضمن عبء عمله، يتم في هذه المجموعات تبادل ثقافي يتحدث فيها كل طالب عن بلده، ثقافتها وأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت مجموعتنا بإشراف أستاذ في التربية العلمية بخلفية كيميائية، الدكتور ديفد كناملر، شخص ودود وكنا كأعضاء في مجموعته نشعر بأنه صديق لكل منا فردياً. تحدثت في المجموعة عن فلسطين تاريخها وواقعها تحت الاحتلال وعن آمال الحرية والسلام وعن جمال الطبيعة عاملاً جهدي ألاّ أثقل على المستمعين بحديث سياسي وقرأت قصيدة مترجمة. كان تفاعل طلبة جنوب إفريقيا تفاعلاً قوياً أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه كان أخوياً. ومن الأحاديث التي علقت آثارها في ذهني حديث زميل من دولة سلوفينيا أرفقها بعرض عن جمال بلاده التي كانت جزءاً من يوغسلافيا الاتحادية وانفصلت كجمهورية مستقلة في العام 1991. تمنيت لو كنت أحمل صوراً عن بلادي لأعرضها كما فعل الزميل السلوفيني، ولم تكن المصادر الإلكترونية حينها قد تطورت، كما هي الآن، للاستعانة بها في ذلك الأمر.
الفترة التي مكثتها في هذه المدينة الجميلة والزيارات الجماعية المنظمة التي قمنا بها كطلبة دوليين، والزيارات التي قمت بشكل فردي والعلاقات التي نسجتها أصبحت ذكريات تستحق الذكر، وآمل العودة إليها وإعطاءها حقها حين يعبر طائرها محلقاً في سماء الذاكرة.
في إطار اهتمامها بالطلبة الدوليين، تخصص جامعة ليدز مكتباً خاصاً لمتابعة شؤونهم اللوجستية والاجتماعية والثقافية، وكان من ضمن أعمال هذا المكتب ترتيب فرصة لمن يريد من الطلبة الدوليين قضاء عطلة نهاية الأسبوع مع عائلة بريطانية. وأنا بطبعي أحب التعارف مع الناس والتعرف على الثقافات والجوانب الاجتماعية في حياة الشعوب الأخرى. أخذت طلباً لتعبئته للمشاركة في هذا النشاط، وكان الطلب يحوي خيارات حول تفاصيل في الزيارة مثل الجوانب الصحية، والطعام المفضل: نباتي أم عادي، حلال، وتحديد الرغبة بين زيارة عائلة تسكن المدينة أم الريف، فاخترت زيارة عائلة تسكن الريف وكان تخيلي أن أزور عائلة في مزرعة في قرية هادئة، كتنويع عن معرفتي بحياة المدن البريطانية، حيث كنت قد زرت عدداً منها.
بعد فترة وصلتني رسالة من العائلة التي ستستضيفني تقول بأن أفراد العائلة يرحبون بي في الموعد المحدد، ويعرفوني بأنفسهم وبمنزلهم وببلدتهم القريبة من مدينة أكسفورد، وأنهم اختاروني لأنني من الشرق الأوسط ورغبتهم بالتعرف عليّ وعلى بلدي. كانت الرسالة موقعة من الزوجة، ولكن باسمها وباسم زوجها. لم تكن الزيارة كما تمنيت لقرية صغيرة ومزرعة، بل كانت لبلدة أبنغدون (Abingdon) والتي يبلغ عدد سكانها حوالي 25 ألفاً، وهي حسب واقع التجمعات السكانية تعتبر من الريف. سررت كثيراً برسالتهم وما احتوته من كلمات لطيفة وانتظار للتعارف، وبدأت أفكر بكتابة رد على رسالتهم أشكرهم فيه على تطوعهم واستفسر عن طريقة الوصول إليهم والترتيبات المطلوبة. انتبهت إلى اسم البلدة، بدا الاسم مألوفاً بالنسبة لي، أليس هذا هو الاسم ذاته الذي يوجد في عنوان صديقيّ ميفز وجيم؟ تناولت دفتر العناوين البريدية الذي معي وفيه عناوين أصدقاء الدراسة الجامعية وأصدقاء دوليين متضامنين ممن كنت أراسلهم ضمن حملة منظمة العفو الدولية “أمنستي” التي تبنتني كسجين ضمير أثناء فترات اعتقالي وفرض الإقامة الجبرية عليّ. فعلاً كانت البلدة نفسها، وتصاعدت المفاجأة حين تبين أن العنوان يقع في الشارع نفسه حيث يسكن صديقاي. يا الله، كم أنت صغير أيها العالم! كتبت لهما شاكراً الدعوة ولأخبرهما عن صديقيّ في بلدتهم ورغبتي برؤيتهما عند زيارتي. لم تمض أيام حتى استلمت رسالتين، واحدة من العائلة التي ستستضيفني والأخرى من ميفز وجيم. لقد تعارفت العائلتان بسببي وخططتا كيف سنقضي نهاية الأسبوع معاً. حسب رسالة العائلة المستضيفة ستنتظرني السيدة في موقف الحافلات في مدينة أكسفورد في موعد وصول الرحلة المحددة مساء الجمعة. أما في الرسالة الأخرى فقد عبر صديقاي ميفز وجيم عن سرورهما بهذه المفاجأة التي ستجمعنا بعد ثلاث عشرة سنة.
كانت الزيارة حافلة باللقاءات وجلسات الدردشة، كنت فيها متحدثاً مجيباً عن أسئلة مضيفاي وابنهم الشاب الذي انضم إلينا في اليوم التالي ليقضي نهاية الأسبوع مع والديه، درس الجغرافيا وتخرج قبل سنة ويعمل محرراً مع دار نشر، وقد اختار نهاية هذا الأسبوع لزيارة أهله وللتعرّف على الضيف الفلسطيني، إذ عبّر في أحاديثه عن معرفة ومتابعة لما يجري في بلادنا. كانت العائلة بمنتهى الكرم والترتيب للزيارة بشكل أشعرني براحة كبيرة وجعلني أتصرف بتلقائية وكأنني أعرفهم من قبل. وكانوا يجيبون عن أسئلتي عن حياتهم وعن بلدتهم التي تسمى أبنغدون على التيمز لوقوعها على نهر التيمز، ولكن تعرف اختصاراً بأبنغدون. كانت البلدة قرية صغيرة ونمت، وتوسعت أكثر بعد أن تم بناء مركز أبحاث للطاقة الاندماجية قربها عندما سكن فيها علماء وعاملون في هذا المركز المعروف بمركز كولهام للطاقة الاندماجية، كما وضّح مضيفي وهو عالم فيزياء ويعمل في ذلك المركز. في اليوم الأول، السبت، كان فطور مشترك ضم العائلتين بمناسبة زيارتي للعائلة، واتفق الطرفان على أن تأخذني العائلة المضيفة بعد الفطور في جولة في البلدة والنهر، وأن يأتي صديقاي القديمان غداً صباحاً لنقوم بجولة في مدينة أكسفورد.
كانت الجولتان ناجحتان. أعادت الجولة في أكسفورد إلى ذاكرتي زيارتي السابقة لهذه المدينة قبل عشرين سنة، حين جئتها وأنا ما زلت طالباً في الجامعة الأردنية في السنة الثالثة في قسم الفيزياء، حين سافرت ضمن فريق من أربعة طلاب زملاء من كلية العلوم من عمان إلى لندن متجولاً بطريقة الأتوستوب، تجربة لا بد من أن يأتي طائرها محلقاً يوماً ما لكتابتها. زرنا المدينة وذهبت إلى مكان كان لي معه قصة لأزوره دون أن أقول لصديقي سبب رغبتي في زيارة المكان. وقد كتبت عن ذلك المكان نصاً ضمن مجموعة النصوص المفتوحة التي صدرت لي قبل عامين بعنوان “على سجادة من غيم”.