من نوادر الشعراء (4)

خالد رمضان | تربوي مصري – سلطنة عمان
ولا يزال الوقت يتسع لنا مع هؤلاء الأفذاذ الذين ملؤوا الدنيا شعرا، وطربا، فسكنوا القلوب، وملكوا النفوس ببديع لغتهم، وعظيم رونقهم، وعِذاب كلماتهم، ونغم ألحانهم، وسرعة بديهتهم ، ورقة مشاعرهم، وعلو فكرهم، فقديما قالوا : من لم يحرك المشاعر فما هو بشاعر، لأن الشعر إحساس يخرج من القلب، فيصل إلى القلب.
وشاعرنا اليوم رجل بسيط، لكنه سريع البديهة، مطبوع موهوب نقي الفطرة ثاقب الفكر.
يُروى أن أعرابيا دخل على أحد الأمراء، وكان ذلك الأعرابي رث الهيئة، بالي الثياب، تبدو عليه علامات ضيق الحال، وقلة المال، فأنشد هذا الأعرابي قصيدة أمام الأمير نالت إعجابه، وإعجاب جميع الحاضرين، وكان الأمراء ٱنئذ يكافئون الشعراء، وكان ذلك منذ القدم، واستمر حتى العصر العباسي، ولكن للأسف مادام الرجل فقيرا مغمورا فكيف له أن يبدع مثل هذا الإبداع، فشك الأمير أنه انتحلها من شاعر ٱخر، فأوعز إلى أحد رجاله أن يأتي بكيس ويضع فيه شعيرا بدل المال، وبعدما يعطيه الأعرابي يرسل خلفه رجلا يتبعه، فإذا فتح الكيس مثُل أمامه، فإن كان شاعرا فلابد أن ينفعل غاضبا ويقول الشعر، وإلا فهو ليس بشاعر، وقد انتحل هذه القصيدة، وفعلا أخذ الأعرابي الكيس، ومضى، و رجل الأمير يتبعه، حتى إذا انزوى جانبا ليفتح الكيس، وإذا به متجهما عابسا مكفهر الوجه، وقتها فاجأه رجل الأمير، وقال له: يا رجل لقد سمعتُ قصيدتك الرائعة الماتعة التي أنشدتها أمام الأمير، فما أجملها، وما أروعها!
لابد أنك جُزيت مالا كثيرا على هذه القصيدة، فقال الرجل في فتور: نعم، لقد جزيتُ مكافأة لم ينلها أحد من قبل، كيس شعير،
فتصنع الرجل الدهشة وقال: كيس شعير! كيف هذا؟!
لابد أنك قلت في ذلك شعرا، فقال الرجل: وما عساي أن أقول!
ولكن يحضرني بيتان، فقال الرجل: إذا أنشدهما، فأبى، فألح عليه الرجل حتى قال:
يقولون لي أرخصت شعرك في الورى
فقلت لهم من عُدٔم أهل المكارمِ
أُجزتُ على شعري الشعير وإنه
كثير إذا خلصته من بهائمِ
فحفظ الرجل البيتين، وهرول إلى الأمير، فحين سمعهما الأمير أغرق في الضحك، وأمر بإحضار الأعرابي، فحين حضر قال له الأمير: لقد سمعتُ ما قلتَ يا أعرابي، فأنشِد ما قلتَ، فأبى العربي، وأنكر لأن البيتين يسيئان للأمير، وحاشيته، ولكن الأمير أصرّ، فإذا بالأعرابي ينشد الأبيات، وإذا بالأمير، ومن حوله يترنحون من شدة الضحك، فعلم الأمير أن الأعرابي لم ينتحل القصيدة، وأنها من بنات أفكاره ، فأمر له بجائزة كبيرة.
هذا الجيل الأول الذي أبدع، وأمتع، هل مازال ممتدا حتى عصرنا؟! أم انقضى نحبه؟
لاشك أنه موجود، ولكن يحتاج إلى تنقيب، وتنقية حتى نعود للرعيل الأول من عظماء الشعراء.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى