من مِشْكاةِ النبوّة: حديث بدء الوحي 4
د. خضر محجز | فلسطين
وصلنا بالأمس إلى قول النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لجبريل: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. وكل هذا مما قاله لأُمّنا خديجة، ثم قصّه على أمنا عائشة، التي هي مصدر هذا الحديث.
ثم واصل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ما أخبر به أُمّنا خديجة فقال:
“فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾”
الشرح:
“فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ”:
غَطَّنِي: عَصَرَنِي وضَمَّني. قال مولاي النووي قدس الله سره: “يُقال: غَطَّهُ وغَتَّهُ وضَغَطَهُ وعَصَرَهُ وخَنَقَهُ وغَمَزَهُ؛ كله: بمعنى واحد”.
“حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ”:
الجُهد: الغاية والمشقة. وتلفظ بفتح الجيم وضمها: الجَهد والجُهد: الشدة.
والمعنى: ضمّني بقوة حتى أوشكت على الاختناق.
“ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ”
أرسلني: أطلقني.
والمعنى: أطلَقَني بعد أن أوشكتُ على الاختناق، فأمرني ـ مرة أخرى ـ بأن أقرأ، فقلت: لست قارئاً، ولا أستطيع، فأنا أُمّيُّ لم يتعلم قراءة ولا كتابة. وصدق الله إذ قال: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (العنكبوت/48).
قال:
“فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ.”:
والمعنى ما سبق في المرة الأولى.
قال:
“فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي”:
وكذلك المعنى هنا هو ذلك هناك في المرتين السابقتين، إلا أنه تلى ذلك قول الملك جبريل بعد أن أطلق نبي الله:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾
أي اقرأ مستعيناً باسم ربك، وعلى ذكره، مستحضراً عظمته: ربك الذي خلق كل شيء، وخلق الإنسان من علق وهو الدم الجامد، كأنه يقابل بين عظمة الرب وحقارة العبد.
والله أعلم
وسنفسر ذلك في تأملاتنا ـ إن شاء الله ـ وبقي لنا في العمر بقية.