بقلم/ هيثم نافل والي
الإهداء: إلى الدكتور العراقي ( ح. ص ) الذي وعدته بأن أكتب تصرفه السيء قصة قصيرة!
هبط المساء غدراً لم ننتبه إليه إلا وهو فوقنا، واستباحت الريح اللطيفة شوارع مسقط فجأة لم نتوقع حدوثها في وقت مخلوط ما بين نهاية الشتاء مع بداية الربيع كلون العسل والليل!
لم يلفت انتباهنا (أنا كاتب القصة وزوجتي الحالمة الجادة أبداً وكأن الصمت الذي تتحلى به يسمع) إلا لبسه البلدي الغريب الذي كان يرتديه( ثوب أبيض فضفاض، وكوفيه مرقطة لها لون جلد الثعبان البري، أبيض وأسود، تهابه العفاريت ويخشاه الجن، انحدرت والتفت تلك المرقطة بتعرجات غير مستويه على كتفيه بلا رشاقة عارية من الذوق) فبدا مظهره من الوهلة الأولى رجل فلسطيني مغترب لا يعرف لبسه الحقيقي الذي اعتاد عليه أهله بسبب غربته وبجانبه كانت تجلس فتاة لها دور الصنم في فلم( الدين صنعة بشرية) المحضور من العرض بسبب عنوانه! لا تنش ولا تكش، ظلت صامته كشخص أصابه الخرس فجأة نتيجة صدمة أدت إلى فقدانه النطق وربما الحركة كذلك. وبأقل تقدير يمكنني وصفها بأنها كانت كالشاهد الذي كانت أمنيته الأخيرة بأن يقول شيئاً في المحكمة ولم تسمع شهادته ولم ينطق طوال الجلسة بحرف لعدم أهمية الشهادة!
وحينما دخلنا ظننت بأن صاحب الثعبان المتهدل كان ضيفاً مثلنا على الملتقى الثقافي العراقي في مسقط ، وكان حضورنا دعوة وجهت لنا من قبل زميل عراقي مبدع( شاعر) مغترب؛ وهل للعراقي وطن غير الغربة؟ لزميلنا أصداء تنافس سمعة الياسمين في الأوساط الثقافية العربية والعراقية فلبينا الدعوة بعد أن وعدنا رئيس الملتقى بأن يخصص لنا مساحة زمنية نستعرض فيها بطولاتنا وجولاتنا الأدبية التي نتشوف بها أينما حللنا..
لم تمض إلا لحظات حتى دخل علينا( د. إ ) القنصل العراقي ليشاركنا أمسيتنا، وكان والشهادة لله، رجل وقور، بسيط، متواضع، وغاية في الأدب والرقة، ناهيك عن معلوماته الثقافية وكأنه عالم غواص في بحرها بصحبة شخص بدا كممثل جاد لا يقبل إلا بالأدوار التي لعبها القدير( محمود مرسي ) في آواخر حياته الفنية! فأعطى حضورهما هيبة للجلسة التي ظهرت وكأنها تتنفس الحزم، لها صفة المسؤولية..
دخلنا قاعة الملتقى ونحن ننتظر دور الدكتور الذي حضرنا من أجل سماع محاضرته حول داء السكر وإذا بنا نتفاجأ بأن المحاضر هو الشخص الذي ظننته الفلسطيني صاحب الثوب البلدي فكان عراقياً أباً عن جد! استغربت من لبسه الذي لا يعرفه العراقي، قلت أسر ذاتي:
– زمننا هذا بات يقاس بالفضول وعلينا التفكير بالأجيال، وما سيصيبهم من جراء أفعالنا، ثم ختمت آهتي السرية: سامحنا الله!
الحقيقة لم أكتف بما همست لنفسي، واصلت تأملي السارح، قائلاً:
– ترى، لماذا يفعل بنفسه هكذا؟ ثم هممت بشرح تصوري الصامت: لبينا الدعوة التي قدمت لنا على أساس أنها محاضرة علمية، ثم نتفاجأ بشخص له هندام شيوخ الدين وأأمة الجوامع ليعتلي المنصة ليخطب بالجموع الحاضرة فينهي عن المسرات ويشجع على الدموع والآهات ويقول بعدها، لكل حي نصيب!
لنصفه ونجسده بالكلمة التي ترسم ما لا يقدر الرسام على كتابته!
كان رجلاً طويلاً كنهر لم تكتشفه البشرية بعد. حليق الشعر ككرة البلياردو، ذو لحية قصيرة، ووجه يشبه أخنوخ الذي كرته التوراة.. كل هذه المميزات اعتبرتها أدلة دامغة على صحة تصوري العاري من الحقيقة! فقد كان الرجل طبيباً باطنياً متخصصاً في أمراض السكر، خاصة بعد أن شرح لنا الأسباب المؤدية للمرض وكيفية الوقاية والمعالجة منه وأثناء ما كان يتحدث نسى نفسه كمن يستسلم لنزوات الخيال، فعاد لطبيعته التي ربما معتاد عليها، كونه( حسب تصوري) رجل علمدين! قام منتصباً بطوله الذي تقبح العيون لحسده، فرجع لي الشعور الذي حدثتكم عنه، بأنه إماماً وليس طبيبا، سيخطب بنا ويحرضنا وربما يوبخنا على قلة إيماننا بالدين ويوم القيامة وبدء بالفعل بنصائح لا تتعلق بموضوعه فهام على وجهه كشاعر من كثرة ما قاله لم يعد يعرف لأي مذهب ينتمي! فأصبح للجمهور الذي يطالعه بدهشة كشخص يائس أشبه بتانتالوس* وبعد أن قصفنا بكلماته استرخت عضلاته، تنفسنا الصعداء عندما اختصر المحاضرة التي حاصرتنا كالخاتم مكتفياً، منتشياً كالوهم الذي يمضغه الخيال بما قدمه من وجبه دسمه عن العلمدين حسب مظهره وما أوحى إليه عقله، مصدقاً كفضول يزحف بسرية بأنه جاء بالثمين المستفز ليعظ الناس ويقوي إيمانهم، فصدق نفسه بخيلاء عجيبه وكأنه لم يضايقنا ولم يفعل شيئاً كظل يزحف خلف صاحبه مثل ثوب الزفاف يكنس الأرض وما عليها دون أن يشعر وقبل أن ينحني ليستريح ويجلس رفعت يدي منغصاً عليه نشوته، وقفت منتصباً كالرمح، بشجاعة أدبية لم تخني، قلت بوضوح تام، وبنبرة رنانة توقظ أهل الكهف من نومهم مصحوبة بابتسامة تكشف عن آثار محن الوجود على مدار الدهر، وأنا أعلم بأن الآم الولادة أقسى من الآم الموت:
– لدي مداخلة لها شكل الحزن، وطعم اليأس، ومرارة الظلم لما فعلته بزوجتي وقت دخولنا الملتقى!
انبهر الجميع، لم يتوقعوا مني هذه البداية الإسطورية غير السارة، الجهنمية التي لها رائحة القبر. رأيت نظرات الجمهور مركزة علي بشكل كبير، خاصة، نظرات القنصل؛ رأيته أكثر حرصاً من الجميع لمعرفة ما سيدور عنه حديثي. اكملت سلسلة أفكاري، معبراً عن انزعاجي وامتعاضي مما بدر من الدكتور( ح. ص ) المحاضر تجاه زوجتي التي عندما دخلنا مدت له يدها لمصافحته كما فعلت مع الآخرين وإذا بها تتفاجأ بأنه يرفض مصافحتها خوفاً من ملامسة يدها فيكفر! رجعت إلى مقعدي بهدوء، ضغطت على يد زوجتي بحرارة، فهمت من نظراتها بأني قلت ما كان بداخلها يفور لتصرف الدكتور لحظة دخولنا ورفضة مصافحتها الذي كان يظهر مثل نيرون* وهو يبتسم راضٍ ومسرور، يدندن على القيثارة فيما تحترق روما تحت قدميه! وقبل أن يفر الدكتور وزوجته نطق صنمها أخيراً بجملة لم تكن تعرف معناها، بقولها وكأنها تؤكد تصورنا عنه:
– ثقافة زوجي إنجليزية، فلا تحدثوه عن الأمثال العربية!..
* تانتالوس: أحد ملوك أسيا الصغرى الذين ظهروا في الحكايات اليونانية القديمة عاقبته الآلهة لأنه أعطى البشر أسرار السماء.
* نيرون: إمبراطور روماني، قام بتعذيب من يرغب بوحشية، طلب من أحدهم بصنع حصان من الفولاذ ليحرق معارضيه بداخله وهو يتلذذ بسماع أصواتهم وهم يتلون داخل الفرن، وأول من أحرقهم صانع الحصان.