احتضار
بقلم : أنوار حسين الدليمي
أغمضت عينيها الذابلتين وسحبت نفساً عميقاً، لم تعد تجد القدرة على استيعاب ذاتها..
ذاتها التي تتفجر تارةٍ كبركان ثائر مل أسره الطويل في جوف الأرض..وتارة تظهر على هيئة طائرٍ هزيل فقد كل ريشه، ذلك الريش الذي يساعدها على أن تكون هي وتطير في سماء الحرية والانعتاق، تنهدت بحرقة وغمغمت وهي تجلس في غرفتها التي لم تغادرها منذ ايام، مقابل النافذة الوحيدة التي أحكمت عليها الستارة قبضتها حارمه الضوء أن ينفذ إلى داخلها، وحده السقف كان شفافاً كالضباب ومفتوحاً على سماوات ممتدة لا نهائية بلا نجوم.
– ليتني سافرت !
إلى أين؟ سألت نفسها..لم يكن لديها أهل ولا أقارب! لكن السؤال لم يتركها..فات الأوان ،أصبحت مجبرة على التعايش مع عقم الأجوبة، ظلت متيقظة وهي تنظر حواليها وهي ترى الجدران تبتعد عنها إلى البعيد، كانت خائفة من أن تفتضح أفكارها عن المكان الذي ستقيم فيه بعيدا عن العيون .. ذلك المكان الذي لم تهتدي أفكارها إليه، تلك الأفكار التي تأبى الركون إلى مآلات ما.
كانت وحيدة.. وحيدة في عالمها تراقب الدخان المتخيل المتصاعد إلى الأعلى مثل الغيوم، روح وحيدة حزينه غارقة في وحدتها واحزانها المبهمه، الظلام يلف وجدانها ومشاعرها وكل احاسيسها، روح مضطجعه مستسلمة تحدق في السماء عابسةٍ الوجه تحاول أن تحلل اليقين المستعر داخلها بحتم انسحاقها الوشيك تحت أتون قوى مجهولة لا قبل لها بردها ولا مهادنتها، الدنيا كانت غير الدنيا والسماء لم تكن نفس السماء، ألوان باهتة كئيبة ونجوم صماء لا تنير.. تبدوا كأنها عالم سحري مظلم مثل حياتها لا تبين للعين فيه غير أشباح أشجار هلامية تتحرك جيئة وذهابا في الفضاء المترامي حولها، ومن يعلم فقد لا توجد هذه الأشجار، حاولت أن تختبر وجودها، فقد يضفي ذلك بعض البشر على محياها الجامد/ ولكن آن حدث ولم توجد؟
– هذا يعني الفناء
سكنت لحظات، كانت أعصابها قد تفككت وتلاشت ثم عادت لبعض التماسك في برهة مستلة من الزمن ..هزت رأسها مبتسمة بهدوء وتراجعت نحو الأعمق من ذكرياتها تفتش عما يدرأ عنها بعض هذا التيه؛ كان كل ما تحتاجه هو بعض النوم أو الاسترخاء.. شعرت ببرودة نسمة رطبه هبت من بين الأشجار، أغمضت عينيها فترة وادركت في الحال كم كانت بديعة وحلوه مثل الربيع، ذكية كأنها الحياة كلها، وكم كان قلبها ناعم كالقطن لايمكن لأحد أن يدخله إلا ويرغب في المكوث فيه أبدا، تسلل نسيم مبلل من بين الأغصان الساكنه عبث بخصلة من خصلات شعرها وخفقت حولها رفيف اجنحه لطيور شبحية بلا عيون، كان الليل شاحباً حجب عنها النجوم، والسماء أخذت تدكنها السحب السوداء وهي جالسه في فراشها،
أخذت أنوار الحجرة تخفت،
وغمر الظلام كل واجهات البيت، وبقت هي تحدق بقوة والأفكار تعصف برأسها وتقودها إلى الشرود، سحابة من البرد غمرت الغرفة، أسرعت نبضات قلبها، الظلام يخيم عليها في ما يشبه الذعر.. أحست بالرغبة في أن تنهض من الفراش .. لكنها عجزت عن الحراك، شعرت باختناق وضيق وكان الهواء قد ركد وثقل وأصبح الجو لا يطاق.. نهضت أخيراً وهي تزفر وتصيح بتلهف..وكان وجهها كالعاج لا حياة فيه:
– يجب أن تمطر الآن..لن يعيد للجو نقاءه سوى الأمطار ..
لتمطر الآن وسينتهي كل شيء ..
مستها سانحة من الراحة ،
واحست بالخفة وهي ترتفع مع الغيوم الخفيفة العاليه، إلى سماء داكنة لا ترى.. واختفت في ظلام قاتم كئيب!