أدب

امرأة زائفة (2)

رواية من واقع الحياة الثقافية

نص روائي: للشاعر المهندس أسامة الخولي | مصر
الأحد ٧ مارس ٢٠٢١
يبدو تقويما عاديا جدا الجو مائل للحرارة إذ تستعد الشمس لرحلة الربيع مخلفة وراءها ذكريات الشتاء والمطر
البحر يرتاح من عناء رحلته الشتوية والسماء ترمي بزرقتها على أمواجه الهادئة
يترجل أدهم المنستيرلي من سيارته
يخرج هاتفه من جيب سترته التي أصرت المرآة على أن يرتديها تحسبا لأي تغيرات مناخية
كعادته كل صباح يقف أمام مرآته متمنيا يوما رائعا له وللكون هامسا لمرآته
(اليوم أنا الأفضل)
تعود أن يهمس بهذه الكلمات الثلاث كل صباح منذ نعومة أظافره فهو على يقين أنها تعويذة سحرية تحميه من الوقوع في الخطأ أو انزلاق قدميه في فعل يقلل من رجولته وحيائه وصدقه وعفويته
يذكره تطبيق الفيسبوك على هاتفه بقصيدة نشرها منذ عام
هكذا الفيسبوك تحول إلى خازن للذكريات لا يفرق بين طيبها وسيئها
يقرر أن يعيد نشرها على صفحته الشخصية
كانت كعادتها كل صباح تجهز كوبا من (النسكافيه) مع مزجه بقليل من الحليب المعلب تعالج به الصداع الذي يلازمها وتستقوي به على كوابيسها التي تطاردها في ساعات النوم التي تقلصت في الأيام الأخيرة نتيجة قلقها من تهور أيمن الحوفي ضحيتها الأخيرة وتهديده بفضح زيفها بعدما تأكد من كذبها وخيانتها
الكوابيس ضميرها الذي لا يستقظ إلا أثناء النوم
هذه الليلة تحديدا حاصرتها وجوه ضحاياها أحكمت الخناق حولها طاردتها حتى الخط الفاصل بين الندم وتبرير الخطيئة
يصرخ ياسر وهو يحكم قبضتيه حول عنقها لماذا لم تخبريني أنك متزوجة
ويسحبها أمجد من شعرها وهو يتمتم بسببك تركت خطيبتي وعاديت أهلي
ومن بعيد يأتي شبح طاهر وهو يلعن اليوم الذي عرفها ويلعن من عرَّفها إليه
تفتح عينيها وتشهق شهقة عالية تتبعها صرخة مكتومة
تمد يدها لتسحب هاتفها
ترفع غطائه السميك
تمرر كلمة المرور الأولى ثم كلمة المرور التي تحمي تطبيق الواتس اب
: ملعون أبو المجموعات
هكذا تمتمت وهي تسحب واجهة الواتس آب لتصل لرسالته
نعم كان ذكاء متفردا حينما قررتُ الاشتراك في أكثر من مائة مجموعة على الواتس آب حيث منحني ميزات كثيرة
أولها : هذه المجموعات الفارغة المعنى ترسل مئات الرسائل على مدار الساعة وبالتالي فالرسائل الشخصية يأتي ترتيبها دائما متأخرا بعد مائة رسالة ويزيد
وثانيها : لو وقع الهاتف في يد غير مضمونة فأكيدٌ سيمل قبل أن يصل لرسائلي المهمة فمن له الصبر والوقت لينتظر تمرير مائة مجموعة
وثالثها وهي الأهم أنها حجة مناسبة للدخول ليلا للواتس حتى إذا ما سُئلتُ
ماذا يشغلك في هذه الساعة المتأخرة على الواتس ؟
فالإجابة المريحة : كنت أتابع مجموعة من المجموعات الأدبية أو الثقافية أو الصحفية
جحظت عيناها فجأة حينما وصلت إلى المحادثة الجديدة بينها وبين أيمن
شهران مرَّا منذ آخر محادثة بينهما أقنعته خلالها أو كادت تقنعه أنه رجل استثنائي في حياتها وأنها زهدت في كل شيء
الثقافة
والأدب
والظهور
وكتابة المقالات
وحضور الندوات
حتى صفحة الفيسبوك سأغلقها
فبعدك لا معنى للحياة
أردفت صدقني سأعتزل الحياة والناس سأهتم فقط بالعمل الخيري ومساعدة المحتاجين
لم تغب دموعها عن المشهد بكل تأكيد ولم يغب صوتها المقهور كذلك
الحقيقة وكما حكى لي بالرغم من يقينه أنها تكذب وأنها ممثلة بارعة ضلت طريقها لعالم الادب والثقافة بديلا عن المسرح وكاميرات السينما إلا أنه لوهلة صدقها
أخذ نفسا عميقا وأجابها في استسلام
ربما
شهران كاملان
يضغط أيمن على حروف جملته الأخيرة ويكررها
شهران كاملان وأنا أراها كل ليلة تفعل ما كانت تفعله معي وأنا أضحك ما بيني وبيني
أضحك على نفسي ومن نفسي
ألتقط صور الشاشة لنشاطها الليلي أثناء مكالماتها الهاتفية بعد الثالثة صباحا وصورا أخرى لدخولها السريع والمتقطع للماسنجر والواتس آب من بعد وصول زوجها للمنزل وحتى الصباح
أتذكر تغلق الهاتف بسرعة حينما ترى ظلا لأقدام زوجها أمام غرفتها متجها للحمام إذ يقع الحمام في مواجهة باب غرفتها
أعتقد أن عطلا فنيا أصاب شبكة الإنترنت عندها
في ذات اللحظة تفاجئني رسالة على الواتس آب
ألو
انتبه
أجدها اختفت
ارد كتابةً
ألو
تمر لحظات وتظهر من جديد
معلش دقيقة وسأتصل بك
تختفي
اكتب لها
إيه حصل ؟
ترد بسرعة وبكلمة موجزة
سأحكي لك
تختفي
تغيب فترة أطول فيغلبني النوم
لا أنتبه لرسالتها الجديدة
هنا
تقصد على الواتس
لا أرد
هنا تضطر لاستعمال الهاتف لتنبيهي
ترن رنة أو رنتين وتنهي المكالمة
أنتبه
أعاود الرنات عليها
تفتح الخط سريعا وتهمس على عجل تعالى ماسنجر
على الماسنجر تعاتبني
لماذا تأخرت في الرد على رسالتي الأخيرة أكاد اتحرق شوقا في غيابك
تهاجمني كل الظنون السيئة
أحتاج صوتك لأواصل القدرة على الحياة والتنفس ومواجهة البشر
ارد باستغراب أنت من أغلقت مكالمة الماسنجر واختفيت فجأة اللهم إلا من رسائلك التلغرافية السريعة على الواتس
طيب سأحكي لك لكن دعني استمتع بحديثنا هذه الليلة
لماذا لا تحكين الآن؟
ترد بصوت كأنه قادم من قاع الحكمة
الأمر جلل يا حبيبي
والله سأحكي لك
يتوقف أيمن عن استرساله
ثم يضيف
شهران وأنا أراها تفعل ما كانت تفعله معي فتأكلني النار
لست ادري أشفقة على ضحيتها الجديدة
أم شفقة على نفسي
جحظت عيناها حينما فتحت المحادثة الجديدة بينها وبين أيمن فوجدت عددا كبيرا من صور شاشة هاتفه لنشاطها المتكرر على تطبيقات الواتس والماسنجر ومكالماتها العاطفية فجرا على مدار شهرين
أرسل لها حقيقتها بلا أقنعة
غسلت أسنانها ووجهها ودخلت للمطبخ لتعد كوب النسكافيه باللبن المعلب حملت هاتفها بين كفيها فتحت تطبيق الفيسبوك وأغلقت كل صفحاتها إلا صفحتها الشخصية وسيلة الخداع الأخيرة المتبقية ثم انتقلت لتطبيق التروكولر ومن الإعدادات أخفت آخر ظهور لها ثم لمعت في رأسها فكرة شيطانية
أغلقت صفحتها الشخصية على أصدقائها وفقط فلا يستطيع أي غريب الولوج إليها
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى