دكتور / جمال فودة
عضو الاتحاد الدولي للغة العربية
بداية لنا أن نقول إن خصوصية الشعور في النص لا تحقق إلا من خلال خصوصية التعبير، ذلك أن النص الشعري جزء من اللغة يخضع لقوانينها الوضعية، لكنه يتميز عنها بخصائص فريدة تدخله في حدود الإبداع الفني، إذ ينبني من مفردات هي بمثابة الدوال على معان ٍ جزئية تكتسب دلالتها وبلاغتها حين تنتظم في علاقات تركيبية مع غيرها من عناصر العمل الأدبي .
والدراسة الأسلوبية تبحث الكيفية اللغوية التي يحقق بها العمل انسجامه وتماسكه في كليته الدلالية، حيث ينبع منهجها من النص الشعري نفسه، لا من مبادئ سابقة عليه، ويتعامل مع الإنتاج ككل متكامل يصدر عن المبدع الذى يعد محوراً تدور حوله بقية العناصر المتشابكة الأطراف في إطار التناسق بين الوعي المنهجي بأصول الشعرية والإنجاز الحقيقي للنصوص، دون أن يغفل مقاييس التواصل الجمالي في الأداء الشعري .
وإن كان التشكيل اللغوي لا يعني توضيح الدلالة، وإنما يهدف إلى خلق معادل مواز ٍ لها، حيث يتشكل الفضاء الشعري وتتشكل معه قراءات متعددة تتجاوز أحادية المعنى.
وفي قصيدة (العامرية) ليزيد بن معاوية نجد الأسلوب الحواري يمثل سمة بارزة في بنية القصيدة؛ لذلك رأينا الوقوف عند هذا النسق، ورصد مـا وراء هـذا النـظام اللغوي مـن دلالات وخصوصيات تسهم في استبطان رؤية الشاعر وكيفية إدراكه لواقعه من خلال مـا ينشئ من أبنية وعلاقات .
أراكَ طـــروباً والهاً كالمتـيم
تطوفُ بـأكناف الـسّجاف الـمخيمِ
أصابــك عشقٌ أمْ رُميت بأسهـمِ
وما هذه إلا سجـيّـة مُـغرمِ
إن أسلوب الحوار في النص الشعري يشتمل على كثير من الأحداث التي تثير مشاعر القارئ وانفعالاته، خاصة حين يبدأ بالسؤال الذي لا ينتظر الإجابة، وإنما لإثارة الدهشة والاستغراب من هذا المحب الطروب الذي يهيم عشقاً، وأسلوب الحوار هنا أتاح لنا فرصة الاستنباط النفسي، وهيأ النص للخروج من جو الغنائية والخطابية إلى جو الحكاية المسرحية، واستخدام حبكات قصصية توظف كإطار لأفكار الشاعر وعواطفه، ومن هنا كانت القصيدة الحوارية قادرة على التخلص من الإفاضة الزائدة في المعنى، فضلاً عن إحداث إيقاع إضافي من خلال الحوار الذي يعمل على ترابط نسيج القصيدة .
ولا تـقـتلوهـا إنْ ظـفـرتـم بـقـتـلـها
ولـكـنْ سلوها كـيفَ حـلّ لـها دمـي
وقـولـوا لهـا يا مُـنـية الـنفس إنـني
قتيلُ الهوى والعشقِ لو كنتِ تعلمي
الحوار الآن هو المفصح عن دوافع الشخصية ورغباتها، وهذا ما دفع الشاعر إلى السؤال مرة أخرى في لحظة تتطلب من الشاعر أن يتحدث إلى محبوبته ، أو على الأقل لمن ينقل حديثه إليها ، وهذا الحديث قد يكون مجرد تفكير أو حديثاً بالفعل لكنه موجه إلى الداخل، ولكل منهما متطلباته النفسية.
وغلبة الأسلوب الإنشائي (أمر ونهي) على بنية القصيدة تنبئ عن الانطباعات العاطفية دون المقررات العقلية، فهي تعكس أزمة الشعور وحيرة العقل ، ونمطية هذه التراكيب وانحرافاتها وسياقاتها الإيحائية تكشف عما تحمله من كثافة شعورية وصياغة فنية جمالية، فنرى القتيل يضحي من أجل قاتله ، وكل همه أن يظفر بنظرة وداع يبوح فيها طرفه بما عجز عنه لسانه !
ولمّــا تــلاقـيـنـا وجـدتُ بـنـانـهـا
مـخـضـبـةً تــحـكـي عصـارة عــنـدمِ
فـقـلت خـضـبت الـكـف بـعـدي هـكذا
يــكــون جـزاء الـمـسـتهام الـمـتـيم
فقالت وأبدت في الحشا حرق الجوى
مـقالة مــن فــي الـقول لــم يـتـبرم
وعـيـشكم ما هذا خـضـاب عـرفـته
فلا تـك بــالـزور والـبـهـتان مـتـهم
ولــكـنـنـي لمــا وجــدتــك راحلاً
وقـد كنت لـي كفي وزنـدي ومعصمِ
بـكـيت دمــاً يوم الـنوى فـمـسحته
بـكـفي فـاحمرّت بـناني مــن دمـي
إننا نتعامل مع النص الشعري على أنه تشكيل فني لغوي في المقام الأول، والكشف عن أبعاده يتم من خلال هذا التشكيل وفي إطاره، حيث نقف في هذه القصيدة على نسق درامي/ حواري، إذ يعمل الحوار على تنمية الحدث وتطويره؛ لأنه يرصد الوقائع ويدخلها في سياق الحدث لتكون جزءاً منه، فمن أهم مزايا الحوار أنه يعمل على تكثيف الصراع؛ حين يرصد لحظة شك في خيانة العهد ونسيان الود من قبل العامرية، لكن ينكشف الموقف عن مفاجأة يبهت أمامها الشاعر، فما ذاك الخضاب إلا دماء نزفتها العين بدل الدمع حزناً على فراق الحبيب، فخضّبت يدها حين مسحتها، فليس هو من بغيره يُستبدل، ولا بغير هواه القلب ينبض، كيف لا؟ وهو السند الذي طالما آنس وحدتها، واليد التي مسحت دمعتها، والروح التي سرت في أعماقها، ومن ثم يجد نفسه في موقف لا يحسد عليه، ربما أصبح ( أندم من الكسعي ) ولات حين مندم !
إن الحوار يدور داخل أغوار الذات ليعبر عن تجرية نفسية ذاتية، ومن خلال هذا الحوار الخارجي (الديالوج) بين الشاعر والعامرية يتم الكشف عن التناقض والتباين بين الطرفين، وبهذا يضع المتلقي إزاء الموقف بكل أبعاده وكل ما يلازمه من تطورات فكرية وأخيلة وقرائن لغوية ، كذلك ثمة إشارات بدت خفية الدلالة في القصيدة،أراد لها الشاعر أن تحتفظ بطاقة ليس من السهل الوقوف عليها أو الاهتداء إلى دلالتها إلا من خلال رصد جوانب الحوار، كمعطى من معطيات عالم اللاشعور التي تقذف بالمتقابلات الدلالية (الوفاء والغدر)..لقد عمد الشاعر إلى الدخول في الحوار مباشرة حيث لم تستدع الحاجة توضيحاً، وبهذا شكل الحوار نمطاً من (الظنون والشكوك) في ذهن الشاعر، ونمطاً آخر من حوار داخلي يجسد عتاباً مريراً موجهاً إلى نفسه على سوء ظنه.
إن المنهج الأسلوبي لا يبتعد عن الصياغة إلا بقدر ما يعود إليها كاشفاً عن ظواهرها الإبداعية وراصداً لمخصباتها الشعرية، وهذا ما لمسناه في قصيدة (العامرية) إذ يمثل النص الشعري في تداخل بنياته نمطاً متميزاً من الأداء اللغوي يتجاوز النسق المعياري، بل يطوعه لإجراءاته الخاصة، فتتشكل دلالة النص، وتتجسد بنيته الأدائية، ومن ثم فإن الولوج إلى عالم النص يكون بالعكوف على تحليل البنية اللغوية وتتبع أنساقها ، والعمل على استكشافها واستكناه أدوارها من خلال خيوطها الممتدة في نسيج التجربة الشعرية.