أدب

تأوّهاتٌ سيابيَّةٌ شَاعِرَة تحتَ مِشْرط جَرَّاح.. قراءة تحليلية لقصيدة: في المستشفى

د. محمد الواضح

تصدير نقديّ:

    السياب ظاهرة شعرية، كلما أوغلتَ فيها شرحا وتفسيرا وتأويلا كنت كـ(قابض الماء خانته فروج الأصابع)!

هكذا يرتبك بديه التلقي أمام أي نص للسياب، ويتلبث في شعره طويلا ما إن رام النقد وصلا بليلاه، فتخوم السياب فسيحة باذخة، ومطر شعره دائم الهطول، وبلاغته معشوشبة نضرة، وحقول بيانه دائمة الخضرة، إلى ما لا يدٌ تجني، ولا عينٌ تحيط بسنا ذلك الجمال.

السياب وبلاغة الاستذكارين (التاريخ رقما والشعر قضية):  

   لا بلاغة أوقع من حضور السياب في ذاكرة الثقافة والشعر والنقد معنًى وإبداعًا، فالتواريخ مجرد أرقام تهدر على قارعة المناسبات والصُّور والمجاملات، تُرى أيُّ البلاغتينِ أَجْدى في الاستذكار؟، بلاغة التاريخ رقمًا؟، أم بلاغة الشعر قضيَّةً ومعنًى؟ سؤال يرجّح مغزاه من عرفوا السياب محض شعرية وتأثير وموقف قيمي.

فعلى الرغم من النقود والقراءات والدِّراسات التي تناولت شعر السَّياب؛ لايزال شعرُهُ محطًا لأنظار فتوحات التَّلقي، تُغرِي معاول النقد بالاجتراحات والحفريَّات، ونحنُ نمرُّ على أطلالِ ذكراه الثامنة والخمسين، فإنَّ أوفى التذكُّر لهذه الرمزية الشعرية العراقية الأسطورية الفرائدية، ذلك الذي يَنْجاب من أعماق سفر شعره الخالد، ورياديّاته الباعثة على التجديد والتأمل، والمغايرة في القراءة والإنتاج.

فهو جيكورُ روحا وأيُّوبُ صبرا والعراقُ مطرًا وغربةً واعتلالاً!!!

بين يدي قصيدة (في المستشفى) :

    بوحٌ وخيالٌ وبراعةُ وصف، أسهم بصناعة نسجه، اثنان:شبح الموت الذي يطارد السياب، ومشرط الجراح الذي يشج ظهره إلى جداول وأنهار منهمرة، وبين هذين المُحرِّكين مِخيالٌ ثرّ، أجاد أيَّما إجادةٍ في التوفيق بين شعور تجربة إنسانيَّةٍ قاسية، وشعرية الوصف وجماله، ففي مشاهد الخوف والرعب والتشاؤم التي تخيم على جو القصيدة، أمسك السياب بخيط نسجه وسرد تفاصيل صورة المنبثة، من دون أن يفوّت على متلقيه لحظة الإمتاع واللذة الكامنة في عمق الألم.

  ففي مستهل قصيدته يشيد حبكة الحدث، ويهيئ لمدخلية الوجوم وحالة الاغتمام النفسي(عزلة ووحدة وشتاء وليل) مرمّزات تأسيسية لتلكم المدخلية؛ إذ يقول:

كمُسْتَوحدٍ أعزلَ في الشتاءْ 

و قد أوغلَ الليلُ في نصفِهِ 

أفاق فأوقظ عين الضياء 

و قد خاف من حقنه 

حتى صورة الإفاقة تشعرك بوقعها لدى الشاعر، وذهوله من مآل مسكون بالخوف!، لتكون تلك الإفاقة مصحوبةً بارتطام يشبه صدمة زائر الموت أو تكاد: 

أفاقَ على ضربةٍ في الجِدَارْ 

هو الموتُ جاءَ 

و أَصْغى، أذاكَ انهيارُ الحِجَارْ 

أم الموتُ يحسو كؤوسَ الهواءْ 

بين موتٍ حتميٍّ وآخر شعريٍّ:

   يظل هاجس الموت أو شبحه الذي يطارد السياب نتيجةً حتميةً لوضعه الصحي المتداعي والعليل، لكن بين موتٍ حتميٍّ، وآخرَ شعريٍّ حكاية خوفين، أحدهما يحكي مصيرا لا مفرّ منه للأنام، وآخر يصنع فكرة شعرية إبداعية تلقي بثقلها وسوداويَّتها على ظلال التعبير، فلحظة شعور الشاعر بزيارة الموت، وإصغائه لمشهد خرابٍ نسجته الأخيلة، طار عاليا فيها ليصيد صورة لافتة، استعار فيها الموت شخصية مغامرة تسكر في احتساء الأرواح؛ وشرب المنايا حين يكون الشراب أنفاس الأعلاء!!.

بين يدي مِشْرط جرَّاح تولد صورة:

   يصف السياب حالةً شعوريةً تنتابه وهو يصوّر عجزه وتسليم جسده البالي تماما تحت يد مشرط الجراح، وما أدراك؟ فرُبَّ صورةٍ تولد تحت مشرط جراح! إذ يشبه الشاعر جسده بالجدار المنقضّ على يد المنقّبين وطارقي الفؤوس:

لُصُوْصٌ يشقُّون دربًا إليه 

مضوا يَنقبونَ الجِدارْ 

و ظلّ يعدُّ انهيارَ التُّرابْ 

ووقعَ الفُؤُوْسِ على مَسْمَعَيْه 

يكادُ يَحسُّ التماعَ الحِرابْ

و حزَّاتِها فيْهِ يا لَلْعَذابْ

و ما عندَهُ غيرُ مَحْضِ انْتِظارْ

هو المَوتُ عبرَ الجِدَارْ

شعور أقضّ مضجع السياب الإنسان العليل، وهو يقاسي عذابًا ومحنةً جراحيةً في مكان خطير وحسّاس عاثت فيه حراب الجراحين ومشارطهم الماضية، حتى صار بينه وبين الموت جرعة هواء، قد تصعد ولاتعود، هكذا كان، يلتقط أنفاسه بالكاد. في لحظة انتظار كونية ضاغطة قد ينهدم فيها الجدار ليعبر الموت!!

في لحظة إيلام ينكفئ القصيد:ثمة شعور إنساني ينتاب كل من يتلقى السياب محض وجع حاد، تتفرفح فيه روحه، كطير مذبوح على وسادة المشفى، يفرغ فيها تأوّهاته الشاعرة:

كذاك انكفأتَ أعضُّ الوساد

و أسلمتُ للمشرطِ القارسْ

قفايَ المُـدمَّى بلا حارسْ

بغيرِ اختياري طبيبي أرادْ

لقد قصَّ مَدَّ المجسّ الطويلْ

لقدْ جرَّهُ الآنَ أوَّاهُ عادْ

لم تفارق السياب لحظة انغماس مشرط الجارحين، وهو يجسّ قفاه متأوّها، ملتاعًا يتوسّل بالشعر صوتًا يزفر فيه أنفاسه وآلامه الأيوبية، يكرّ ويفرُّ فيها مِشْرط قاس، جيئةً وذهابًا، ومن تحته أنينٌ مدوٍّ يَكْلمُ جسد الشعر والشاعر في الآن معًا.

التسليم لقدر الحياة والشعر:

     الوقت، والمسافات، والانتظار، وخوف من انهيار الجدار، مسلّمات تحاكي حال شاعر، يصنع من عمق المحنة ورجع الألم، رجعًـا شعريّا، أنتجت فيه هذه الموجعاتُ تراتيلَ بوحٍ معمّدٍ بالصَّبر والثبات والتسليم لقدر، لا طاقة له على دفعه وتغيير أحواله:

 

و لا شيءَ غيرَ انتظارٍ ثقيلْ

ألا فاخرقوا يا لُصُوْصُ الجدارْ 

فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مالي فرارْ

     في ختام هذا الوجع الشاعرِ، تُسّجل هذه القراءة التحليلية فرادةَ التجربة السيابية الرائدة في التحليق عاليًا بمكابداتٍ إنسانيةٍ لا انفصالَ للشعر فيها عن الحياة والعذابات؛ لحظة تداعيها وتجليها بواعثَ فاعلةً ومنتجةً ومنتظمةً في مخيال شعريٍّ، يحاكي عنفوانًا وسموقًا تعبيريًا بالغ المعنى وعميق التأثير، وذلك إبداعٌ وتخليقٌ واقتدارٌ يسجّل أعلى حالات التواصل الإنساني بالشعر، بوصفه جرعة دواءٍ سيابيَّة ناجعة.

سلام على السياب في ذكراه الثامنة والخمسين رائدا ورمزا أدبيًا أغمض المرض عينيه جسدا، ليبقي عيون شعره وروحه متهجدة في محراب الجمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى