كنيسة ميشا.. قصة قصيرة

حيدر الحجاج| أديب عراقي
في زاوية منسية من الأرض، حيث يتلاشى الأفق بين رمال الصحراء وأصداء السكون، وقفت كنيسة ام الاحزان مهجورة في ميسان. الجدران المتصدعة، والتي كانت يومًا ما تجسد الفن والمعنى، أصبحت الآن مجرد طيف لهيكلٍ يقاوم عاديات الزمن . الهواء ثقيل، لا يحمل سوى رائحة العفن والتراب المتراكم على حواف الأعمدة. لا توجد أصوات سوى همسات من الصمت، الذي لا يكاد يعرف متى بدأ ولا كيف انتهى.
لم يكن ثمة حياة في هذا المكان، ولا أثر للزمان. الزمن هنا ليس سوى جرح مفتوح، غائر في قلب الواقع. كانت الكنيسة، في يومٍ ما، ملاذًا للروح والتهليل، لكن تلك الأوقات تبددت كخيوط ضوء تخترق الغيم، ثم اختفت إلى الأبد. اليوم، كانت مجرد هيكل معدني مهدم، يهمس في وجه الرياح عن فقدان المعنى.
داخل الكنيسة، لم يكن ثمة بشر، لكن كل زاوية كانت تحتفظ بشبحٍ بعيدٍ لذكرى ما. كان السقف، المهدوم جزئيًا، يسمح لأشعة الشمس بالتسلل عبر النوافذ الزجاجية التي تحولت إلى قطعٍ مهشمة. الضوء يتساقط على الأرض في بقعٍ من الضباب، كأنه يحاول أن يذكر المكان بشيء، ولكنه عاجز. الزمن يتسرب هنا ببطء، وكأنما كان قد مرَّ هنا يومًا شيء، لكنه انتهى، كما تنتهي جميع الأشياء..الجدران، التي كانت محملة بالكلمات في يومٍ ما، الآن تصبح مجرد صدًى لذكريات غائمة،لا يمكن رؤيتها أو سماعها.
كل شيء هنا مُغرق في العدم، المرايا التي لم تُعكس فيها إلا صور محطمة من الماضي. هل كان الناس قد جاءوا إلى هنا يومًا؟ أم كان ذلك مجرد وهم؟ الحجارة تتناثر على الأرض في صمت، وكأن المكان نفسه كان يحاول أن يلفظ ما تبقى من ذاكرته. كان الجو مشبعًا بشيء غير محدد، شعور غريب بوجود أشياء غير مرئية، تختبئ في الظلال.
ثم بدأ المكان يتغير. لم يكن تغييرًا محسوسًا أو مرئيًا، بل كان شعورًا عميقًا يتسلل إلى أعماق الكائنات. لا أحد يعرف متى بدأ هذا التغيير. لا يمكنه أن يحدد متى تحول الوجود إلى مجرد صراع مع ذاته. كان الجميع، أو بالأحرى ما تبقى منهم، يركضون في دوائر فارغة، بحثًا عن معنى لا وجود له. لا شيء يمكن أن يسكن هذا المكان الآن، سوى الأسئلة التي لا إجابة لها.
الكنيسة كانت تخنقهم، أو ربما كانوا هم من اختنقوا، فقد كان كل شيء هنا يتلاشى تدريجيًا، دون أن يدرك أحد ذلك. لا الصوت كان يسمعه أحد، ولا الأثر كان يتركه شيء. كل شيء، من بين أيدينا، كان يتحلل.كانت الكائنات، التي مرت يومًا ما على هذه الأرض، قد تلاشت. ربما لم تكن هنا أبدًا، ربما كانت مجرد خرافة، رواية مر بها الزمان ليصير جزءًا من اللامكان.
ومع مرور الوقت، بدأ المكان يبتلع ذاته. الحجارة التي كانت تمثل القوة والثبات، تحولت إلى غبار. الجدران التي كانت تُحاكي القوة، أصبحت تتآكل كأنها كانت تُخفي شيئًا من الحقيقة، سرًا لم يعد يستحق البقاء. لكن الأغرب من ذلك كان الشعور الخفي بأن الوجود نفسه كان قد فقد معناه هنا، تمامًا كما فقدت الكنيسة روحها.
لم يعد هناك فرق بين الحياة والموت. لا أحد كان يعرف أين انتهى الوجود، وأين بدأ العدم. ما تبقى في هذه الأنقاض لم يكن سوى مشهد من دمار هادئ، حيث الزمان والمكان يسيران في اتجاه واحد: إلى اللاوجود. والمكان الذي كان يُحتفظ فيه بالحياة أصبح مسرحًا للزوال، والزوال وحده. كل شيء، بما في ذلك الطقوس التي عُرفت هنا، لم يعد سوى فوضى يائسة،
تسعى بلا جدوى في فضاء بلا حدود.