المقامة القناعية
بقلم: طاهر العلواني
قال ربعيّ بن سعيد: وقفتُ بِخلاء، في قوم بُخلاء، يعتلفون النوى، ويعتقدون النوى، ويقتاتون الشَّعير، ولو كان حمل بعير، فتقدَّم يمتطي نعلَين، رجلٌ ضيّقُ العينَين، حسر عن رأسه العمامة، وقال وأقعدَها أمامه: إنّ الفضلَ لله لا لعبدِه، والمُلك بيد الله لا بيدِه، إنّ أهل السخاء أشدّ عقابًا مِنَّا، يُسألون عمّا أجرموا جُودًا أو مَنَّا، ويطول موقفهم في المحشر، وننجو مع صفوة البشر، نكنزُ غمامنا وهلالَنا، ونحذر السؤال فنحفظُ أموالَنا، وحكّمنا فيه أنفسنا وعقولَنا، ذاك أنكى لها وأزكى لنا، إنّ الجودَ يبدِّدُ المال، ويضرُّ بالآمال، يصيّرك بعد أن كنت غنيًّا فقيرا، ويردّك بعد أن كنت شريفًا حقيرا، فترقُّ على الناس حالُك، ولا يشفع لك خلالُك، فاشكروا بارئكم على هذه الأسرار، وما أولاكم من الخير والاختيار، في نزل من عند الله وما عند الله خير للأبرار، فما أظرفَ متاعنا، وأجود اصطناعَنا! ثم عمد إلى نواة فالتقطها، وشعيرة فتأبّطها، ثم ألقاهما أرضا، وقال شرًّا محضا: إن دعتْهما الأرضُ فافقؤوا عينَها، وحولوا بينهما وبينَها، لم تعرفكم في الرّخاء فتعرفوها في البوس، ولم تقابلكم بالطلاقة فالقوها بالعبوس، أنتم في نعيم فاجعلوه أمامكم، وسوقوا أموالكم قدَّامكم، ثمّ أنشد:
أُمَرُّ بمالي، وأرضى بحالي**وإن زاد لم أقض منه الوطَر.
أجوعُ وأعرى وأخشى وأخزى**وأكنزُ جدْبي ليومِ المطرْ
أعول عيالًا، وأحفظُ مالًا**فما درهمٌ خارجٌ لو شَطَرْ
أُقاسمُ عشرًا رغيفًا بما**تقيّةَ شرٍّ شَرَا مستطَر.
وأرضى عفافةَ ناقةِ جاري**وأذخر نوقي ليومِ الخطَرْ
أأُنفقُ فَلسًا إذا يُمسحُ**وربّيَ ذلك شرُّ البَطَرْ
قال ربعيُّ بن سعيد: فقام إليه رجلٌ من محبِّي الصَّنيعَة، قال: بئس الحيلةُ وساء الذَّريعَة! لبستَ دنيَّةً فزيّنتَها، وملكتَ شِمالًا وبيّنتها، رجمتَ الجودَ ببنانك، وعجمتَه بلسانك، وحكّمت في نفسِك شيطانَها، وألهبتَ شهوتها وسلطانَها، وأعرجتَ محتالًا تقوّي أساسَك، فلا قوي أساسُك ولا تماسَك، وتُفدّي الشّحّ بمُهجتك، وبنيك وزوجتك. لقد كان سوسُ الجودِ أرضَ الآمال، وقِبلةُ السّخاء أرضى الأعمال، عانقتْه بيديها الثّريّا، وسألتْه شبعًا ورِيّا، يعينُ فقيرًا أكلَه الجوع، وغريبًا اشتاق له الرجوع، وغارمًا أذلّه الخضوع، ومَدينًا أقضّه الأرق عن الهجوع، وإنّ أعيُن السائلين تقرُّ به عند تقرُّبِه، وما أراك إلا شربك الحرض، وأكلك المرض، وألصقتْ أنفك بالأرض، أتعرّف بعضه وتعرض عن بعض؟! ثم أنشد:
رأيتُ البخيلَ شديد الهمومِ**كثير الكلوم كذوب القدَرْ
وأهل السخاءِ كرامَ الرجاء**عِظامَ الرّخاء إذا ما بَدَرْ
وعفو الكريم حجابٌ من الظّل**م، والبطشِ حجزًا إذا ما اقتدَرْ.
ووجه الجوادِ مليحٌ ضحوك**كقمر الدياجي إذا ما بدَرْ.
وكلٌّ مُثابٌ على فضلِه**فجوَّدَ هذا، وهذا حَدَرْ.