سينما.. لبلبي و بيبسي كولا

محمد قدو الأفندي | العراق – اسطنبول

في يوم خريفي عصرا وببدايات فتح المدارس لأبوابها حضر أحد أصدقاء أخي من أبناء حيينا وزميل مدرسته لمرافقة أخي في الذهاب إلى السينما لمشاهدة أحد الأفلام في إحدى دور السينما بالمدينة لمشاهدة فلم  آثار ضجة واسعة .

اعتذر أخي عن مرافقته رغم وجود موعد مسبق بينهما في المدرسة لانشغاله بتحضير دروس وواجبات مدرسية خوفا من تراكمها عليه، واقترح عليه أن أرافقه وأنا من ناحيتي رحبت بالفكرة ، لكن التمويل المالي للذهاب إلى السينما كان مقننا فنحن أولاد الموظفين نتصرف بالشأن المالي وفقا لهبات الأب الذي يوزع الراتب الشهري وفق حسابات دقيقة للتكامل الاقتصادي لشهر كامل.

وما كنت أملكه من رأس مال كان يؤهلني أن أتواجد في غير الدرجة الأولى بمقاعد السينما لأن من مراسيم مشاهدة الفلم في دور السينما يجب أن يتضمن وجود (كرزات أبو نادر البقال) المجاور للسينما أو وجود (بطل ببسي) معك وتكرعه أثناء العرض، وأحيانا تؤجل كل هذه المراسيم لحين انتهاء الفيلم والخروج من السينما لتناول لفة (صمون وماعون حمص) من زكي أبو اللبلبي والذي كان يزين واجهة عربانته بقناني مملؤة بسوائل ملونة صفراء وحمراء وخضراء وبنية وحتى زرقاء سماوية تدهش الناظرين، ولكن كل هذه المصنفات من الألوان الجذابة في القناني الزجاجية كان ممنوعا عليه استعمالها أو إضافتها لكاسة الحمص لأنها كانت ألوان لأصباغ جدران وحيطان، فكان من حقه وحق زبائنه فقط إضافة شراب الحامض من قنينة قديمة مُسحت آثار علامة محتواها الأولي، وقد يكون من المناسب في بعض الأحيان أو في أحيان قليلة أن تتوجه إلى محل (سامي أبو السندويج) وتتناول (سندويج اللحم أو البيض أو السندويج المخ، لأننا كنا نحبها حيث لاوقت ولاجهد ولا حتى مهارة عند أمهاتنا في إعداد هذه المأكولات.

قبل ساعتين من حضور الصديق كنت قد انتهيت من تناول الغذاء والذي أعدته أمي وهو عبارة عن أكلة باذنجان تحضره بطريقتها الخاصة ولكني لا أعرف ما اسم تلك الأكلة التي تتفرد أمي بتحضيرها في معجم المأكولات العربية ولاحتى اسمها المحلي وإلى الآن– وهي ببساطة شديدة – حيث تقوم أمي بعد الانتهاء من خبز عجينها في تنورها الطيني بوضع عدد من الباذنجانات فوق جمر نيران التنور حتى تستوي تلك ثم تقوم بتقشيرها وتقطيعها ومن ثم قليها مع البصل والدهن في مقلاة كبيرة ووتقديمها لنا بعد إضافة عصير الرمان وكنا نتناولها مع الخبز الحار.

المشكلة التي ستواجهني في هذه الرفقة أنني لم أكن قد صاحبت هذا الصديق ولم أكن قد تكلمت معه رغم أننا من جيل واحد تقريبا وهو من أبناء حينا ولكني ما كنت تواقا إلى التعارف على أصدقاء جدد، والأكثر من ذلك أنني كنت قليل الكلام جدا وكنت بهذا أحرج أصدقائي وحتى أقربائي في عدم التحدث معهم ومجاملتهم، وأتذكر فيما بعد أن أمي حذرتني بأن لا أخطب فتاة قليلة الكلام مثلي لأننا سنرزق بولد أخرس جراء تلاقي الأخرسين وقليلي أو عديمي الكلام.

لا أكتم سرا أن صديقي الذي رافقته لمشاهدة الفيلم كان أكثر مني صمتا وكأننا ذاهبين إلى إنجاز مهمة سرية ولا أكتم سرا أن تلك المهمة قد تمت على أفضل وجه من الكتمان ففي هذه الرحلة الطويلة وأثناء مشاهدتنا للفيلم ورجوعنا إلى البيت لم نتفوه بأي كلام سوى المقدمة بالسلام عليكم وفي نهاية الرحلة بمقولة (في أمان الله) .

وصلنا إلى دار السينما متاخرين قليلا وعلى شباك التذاكر الذي كان فارغا تقريبا فقد أتم رواد السينما  حجز أماكنهم فيها، فطلبنا تذكرتين بالدرجة الثانية ليتسنى لنا توفير بعض المبلغ المقرر للاحتفال بمراسيم السينما، لكن مسؤول شباك تذاكر الحجز اعتذر منا وأخبرنا أن تذاكر الحجز للدرجة الثانية قد نفدت وأن المتبقي فقط من تذاكر الدرجة الأولى والذي سيسلبنا كل نقودنا حتى أجرة الباص عند رجوعنا.

جلسنا في مكاننا المخصص في مقاعد السينما والصمت يغلف الأجواء ويزيد الصمت حزني في عدم إكمالي حيثيات هذه المناسبة فلا (كرزات) ولا (قنينة ببسي) ولاحتى (لفة لبلبي) والأكثر من هذا أن صديقي تغلّف بالصمت هو الآخر وربما كان حاله متناظرا مع  حالي في تلك المناسبة.

عرض الفيلم كان بلا طعم ولا لون ولا رائحة وأنا في استغراقي تمر أمامي لقطات باهتة وحركات غير مفهومة في الفيلم ولكن عند الصحوة أرى أجمل اللقطات والأكشنات وبطل فيلم رائع ثم أستغرق في همي الذي لن أنساه ويترائى أمامي شخص يمثل تمثيلا غير مقنع ومناظر وسيارات لا أعير لها أية أهمية وهكذا بين الصحوة والاستغراق بدأ الفيلم وبهكذا انتهى.

ومما زاد في استغراقي أن الفيلم كله عبارة عن لقطات أكشن وإن الممثل أو بطل الفيلم أصبح ثالثنا في صمته المتواصل وكأننا على موعد مسبق فلا تكاد تسمع له حوار؛ بل حركات بوليسية مخابراتية وكل همه الانتقام من قاتلي صديقته أو زوجته.

بعد فترة ليست بالقصيرة من مشاهدتي للفيلم وأنا أقلب صفحات إحدى المجلات قرات تحقيقا عن فيلم أثار ضجة كبيرة  وحقق إيرادات خيالية ولازال الفيلم يعرض بعشرات دور العرض العالمية وحصل بطله على جائزة السعفة الذهبية والقلادة الفضية والسوار النحاسي وكلابتين مصدي وقنينة أسبرتو ووو ، وعرضت عدة صور من الفيلم إضافة إلى صورة البطل الوسيم واسم الفيلم أيضا في ذلك التحقيق، عندها انتبهت إلى أن هذا البطل ربما قد شاهدته وأني أتذكرصور مانشيتات الفيلم فاتصلت بصاحبي على عجل وكانت علاقاتنا قد بدأت للتو كأصدقاء.

ألو: مرحبا

هو: أهلا وسهلا

أنا: سؤال أخي عبد الهادي :

هو تفضل

أنا: هل تتذكر اسم الفيلم الذي شاهدناه في مقتبل صداقتنا؟:

هو: النمر الجريح

أنا: وهل تتذكر اسم البطل:

هو : آلان ديلون

هو: خير أش أكو؟

لا ماكو شي بس ضيعنا الفيلم واللبلبي والبيبسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى