عطاء ثقافة الأربعينية

عليّ جبّار عطيّة


لابدَّ أن يتوقف المرء أمام حدثٍ كبيرٍ مثل ذكرى الزيارة الأربعينية للإمام الحسين عليه السلام التي تتجدد في العشرين من صفر من كل عام، ويقف القلم حائراً في وصفها، والتعبير عن مشاعر الفخر والاعتزاز بما يرافقها من مظاهر عطاء يفوق التعبير .
تورد المراكز الرسمية أرقاماً لأعداد الزائرين هذه السنة تجاوزت الواحد والعشرين مليون نسمة، منهم أكثر من خمسة ملايين زائر من خارج العراق، وقد قطعت أعدادٌ كبيرةٌ منهم مسافات تجاوزت مئات الكيلومترات مشياً على الأقدام، في أجواء مناخية صعبة تجاوزت فيها الحرارة الخمس والأربعين درجة مئوية، ونصب أكثر من أربعة عشر ألف مخيم على طول الطريق إلى كربلاء،كما فتحت البيوت أبوابها لمختلف الزائرين، وتقدم خدمات ضيافة من إطعام، وإيواء جعلت اليونسكو يدخلها ضمن التراث الثقافي غير المادي في لائحة التراث العالمي منذ سنة ٢٠٢١م.
لا يقتصر المشي إلى كربلاء على الشباب القادرين عليه كرياضة، وإنّما تجد إصراراً عجيباً على المشي من الذين تشق عليهم الحركة لمسافات قصيرة كأصحاب الأمراض المزمنة، وذوي الإعاقة، كذلك كبار السن، والأطفال والحضور النسائي الكبير، يوحد الجميع طريق أبي الأحرار، والمشاركة في أكبر مسيرة إنسانية ضد الظلم.
إنَّ المشي إلى كربلاء، وتجديد الولاء إلى الرافض الأعظم للطغيان صار جزءاً من ثقافةٍ إنسانيةٍ آخذةٍ بالاتساع.
ولا يمكن للباحث في هذه التظاهرة العظيمة تفسير السلوك البشري تفسيراً علمياً، بل يكاد الأمر يدخل ضمن الأسطورة.
فما الذي يجذب هذه الملايين لإحياء هذه الفعالية كل عام، والاصرار عليها حتى في أحلك سنوات العنف الطائفي، والتعرض لأخطار كثيرة محتملة ؟
ما الروح العظيمة التي جعلت الملايين تشعر بأنها أُسرةٌ واحدةٌ؟
ما الذي يجعل بقعة كربلاء الصغيرة جغرافياً تتسع لتستوعب جميع الزائرين؟
إنَّه عشق الحسين والحرية والحياة الحقيقية، وهذا ما لا يدركه الآخرون الذين ينظرون إلى الأمر بالحسابات التقليدية وبنظرةٍ سطحيةٍ.
وهذه هي الثقافة المتحصلة لهذه الذكرى العظيمة ذات العطاء الإنساني الكبير.
وكتحصيل حاصل لما ذكر فإنَّ الزيارة الأربعينية حدث استثنائي خارج الزمان والمكان برغم جريانه الطبيعي ضمن السياق التاريخي، وعليه لا يمكن فهمه على وفق المقاييس والقوانين الفيزيائية، ولابدَّ من وقفةٍ أدبيةٍ طويلةٍ أمامها كظاهرةٍ تعكس حضارة شعبٍ ترسخت هويته عبر إرث كبير من قيم البذل والسخاء والعطاء منقطع النظير برغم كل ما وصم به هذا الشعب العريق من صفات سلبية دخيلة عليه جاءته عبر عصور الاحتلالات الداخلية والخارجية فشعب العراق الحقيقي هو شعب زيارة الأربعين لا شعب قصص ألف ليلة وليلة وعلي بابا !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى