القرضاوي.. حكيم العلماء وأديب الحكماء.. وداعا

منتصر ثروت القاضي

مهندس نووي وشاعر مصري

    لا أدري من أي فرع من فروع الكلام ينبغي أن أتحدث عن قامة كبيرة مثلك وقد كنت فارسا نبيلا من أكبر فرسان الكلام والحجة القوية والبيان الناصع في الفقه والفكر الإسلامي والأدب.


لن أقف طويلا عندك شاعرا وأديبا مجيدا فلدينا كثير من الشعراء والأدباء الذين أجادوا صناعة الأدب ولكنهم لا يكادون يفقهون شيئا من علوم دينهم الذي ينتسبون إليه كما تشير بيانات مصلحة الأحوال المدنية.
لقد آثرت أن أركز كلامي على الفقيه والمفكر ورجل المواقف المشرفة ولا يهمني في الكلام عنك لومة لائم فقد عاهدت ربي ونفسي ألا أسير مع القطيع وإن فقدت من أجل ما أؤمن به كل صاحب.
أما عن المفكر والفقيه فقد كان كتاب واحد من كتبك التي تقرأ في بضع ساعات كفيلا بأن يختصر علينا شهورًا وأعواما من القراءة والبحث المضنِي في الكتب، والمجلدات بطريقة منظمة مركزة بالغة الدقة والأمانة بأسلوب فقيه عالم يفقه النصوص ويجيد الحديث عنها بلسان عربي مبين لا عوج فيه.
أشهد لك شهادة من قرأ لك لا من قرأ عنك، ولا يعنيني ما كتبه عنك أدعياء الفكر والتنوير من الحاقدين والتافهين والجاحدين والجاهلين قدرك وكثير ما هم، ولكنها كثرة مثل جعجعة النهيق في سوق الحمير.
لست صحفيا بارعا لأرتب كلامي ولا كاتبا يجيد فن المقالة ولكني محب وتلميذ صغير ممن تتلمذوا على علمك الغزير.
أما عن الفقه بالتحديد فقد بلغت بك الأمانة مبلغا لم أجده عند أحد ممن تطاولوا عليك من المشايخ، وأكبر مثال أذكره لك على أمانتك أنك كنت تصر على بيان ضعف بعض الأحاديث وإن كانت تؤيد رأيك، وهذا لم أره من شيخ واحد ممن تطاولوا عليك فقد كانوا يتسابقون في الاستشهاد بالروايات التي تؤيد آراءهم مهما بلغت من الضعف، ولم تستند مرة في التحريم والإباحة بحديث ضعيف إلا إن وجدت ما يقويه من كتاب الله أو من حديث صحيح السند صريح الدلالة.
ومن الأدلة القوية أيضا على أمانتك أنك لم تقطع بقول عندما كانت تتساوى لديك أدلة الإباحة والتحريم في قضية ما ولكنك كنت تبين ذلك وتشهد أن رأيك رأي ترجيح لا قول فصل، وهذه أيضا أمانة لا تتوفر لدى أكثر من كانوا يتطاولون عليك ولا يجرؤ واحد منهم على الجلوس أمامك للمناظرة العلمية.
أما عن رجل المواقف المشرفة فقد أصابك من الأذى والعذاب ما أصابك منذ شرخ شبابك مما اضطرك إلى الهجرة بدينك تاركا وطنك الذي لم يقدر علمك وقامتك لأنه مشغول بتقدير الراقصات ونجوم كرة القدم، ولكن أعضاء النخبة المتصابين الذين يجلسون في بيوتهم تحت مكيفات الهواء يتغزلون في أجساد العاريات يعيبون عليك أنك لم تمارس العنترية الفجة في كل بلد دخلته مهاجرا لتظل مطاردا في الصحارى إلى آخر يوم في حياتك، ووالله العظيم لو فعلتها ما رضوا عنك حتى تتبع ملة ضمائرهم الخربة، ومع ذلك فقد كانت مواقفك المشرفة أكثر مما يحصى ولكنهم لا يفقهون حديثا.
لو مارست هذه العنترية الفجة ما كنت تركت لنا هذه المكتبة العظيمة القيمة التي تصل إلى مريديك من طلاب العلم مهما صودرت في عصر لا ينقطع فيه العلم بمصادرة الكتب.
لقد عرف قدرك بعض أهل العلم الحقيقي من السلفيين واحترموا قامتك على الرغم من اختلافهم مع بعض آرائك ولكن ظلمك منهم كثير من الأدعياء والجهلاء ممن تلقوا معلوماتهم على أشرطة المشايخ القليلي العلم والأدب فازدادوا جهلا على جهلهم وأنكروا وجود الخلاف في أشد الأمور خلافا؛ فأطلقوا على كتابك العظيم (الحلال والحرام) عبارة (الحلال والحلال) أسوة بمشايخهم الجهلاء وترديدا لعباراتهم التافهة المليئة بالجهل والتنطع والافتراء وثقل الظل.
لقد ظُلمت مرتين، مرة من قوم متنطعين اتهموك بالتساهل والتفريط، ومرة من أدعياء التنوير الذين اتهموك بالتطرف، وقد جاء كتابك العظيم (فقه الجهاد) ليبرئك من تهم هؤلاء وتهم هؤلاء، لقد أدنت ما كانت تمارسه بعض الجماعات من جرائم باسم الدين قبل مراجعة مواقفها إدانة صريحة فبرأت نفسك من تهمة التطرف، واختلفت مع بعض علماء السلفية الذين أباحوا الهدنة مع العدو اللدود، ولكنك كعهدك في الخلاف كنت مهذبا تذكر قدر العلماء الحقيقيين بكل احترام وتقدرهم تقدير العالم الحقيقي عندما تصرح باختلافك معهم، وقد كان اختلافك معهم تبرئة جلية لك من تهمة التفريط.
أما عن الأديب فلا مجال للدخول في تفاصيل عن قصائدك التي سجلت فيها مواقف العذاب والبلاء والدعوة ولا عن مسرحيتك التي عكست شخصيتك كعالم وفقيه وداعية، ولكني سأذكر فقط كيف ازداد إعجابي وانبهاري عندما قرأت قصائدك الغزلية فشعرت أني أقرأ لفارس من فرسان مدرسة أبوللو، وهنا شعرت أني أمام نسخة معاصرة من ابن حزم الفقيه الكبير والأديب المجيد والفقيه المجدد، لقد أراد الصحفي أن يشوهك عندما نشر غزلياتك في امرأة أحببتها وأردتها في الحلال ثم تزوجتها على سنة الله ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن كيف بغفر لك أعضاء النخبة جريمة الحب والرغبة في الزواج الثاني من امرأة أحببتها وهم الذين يروجون للغزل الفاحش والاختلاط باسم الحرية ويحاربون التعدد محاربة الدين الحق للفواحش؟!!
لقد أراد الصحفي تشويهك فزاد من إعجاب العارفين باللغة والأدب بك وبمكانتك العلمية والأدبية وعرفنا أن الفقيه الأديب أقدر على الفهم العميق في فقه الأمور المتعلقة بالعاطفة مثل الفن والأدب، وقد شاء الله أن يحفظ عقلك بحفظ كتاب الله وذكره إلى آخر أيامك في الوقت الذي أصيبت فيه عقول النخبة الموقرة في أعمار أقل منك بعقود.
لقد حزنت عليك ودمعت عيني ولكني سعيد لأنك لقيت ربك دون أن تفتن كما فتن الكثيرون، وقد كنت أدعو لك بذلك، ولأنك أديت رسالتك وتركت لنا علما نافعا قيما لا ينقطع بموتك.
والحق أن هذه الغزليات الرائعة جعلتني أتمنى من الناشرين أن يجمعوا لنا أعماله الغزلية العفيفة في ديوان كما نشروا طوق الحمامة لابن حزم، فهذا والله لخدمة الأدب والدين معا، أقولها ولا أخجل من تشدد المتشددين.

   رحمك الله رحمة واسعة وجعلك مع من أنعم عليهم من عباده الصالحين وجزاك بما قدمت خيرا كثيرا أيها العالم الجليل الدكتور يوسف القرضاوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى