خاطف البهجة.. قراءات في شعر السمّاح عبد الله (2)
فتحي محفوظ | ناقد مصري
القصيدة الأولى: الْحَفلْ
في آخر النهارْ
نكون يا رفيق قد وصلنا بحرَ سوهاج وعاينا المزارْ
تكون العربات مرقتْ
والشجراتُ مرقتْ
والفتياتُ أعطين ظهورهن للمصابيح ولوّحن لراكبي مراكب الصيدِ التحياتِ التي تليق بالوحيدات اللواتي ليس في جيوبهن ذكرياتٌ أو دموعٌأو حنينٌ مستعارْ
ونحن قاصدان الحفلَ كي ندوخَ في مدار رحلةِالأقمارْ
وننشد الأشعارْ .
^^^^
في البهوِزغردت مصابيح المكانِ
كان السيّدون فرحين بالنشيدِ وتسربِ القَطرِ إلى الأنهارْ
والسيّداتُ يلتقطن ما يسقطه السقفُ من البالون
كي يرقصن في بهاء اللونِ وانفراط االلؤلؤِ المنثورِ كالأمطارْ
وثمة الموسيقا
ألمهرجان كان كاملا
ووحده أبو الطيب في عرائه العريض
ينقّح القصيدة التي سربها الواشون في جرابهم
وأشعلوا في خضرة التفاعيل وفي عشبِ المكان النارْ
وبدّلوا قافية المديحِ كي تصير حلقة من الحديد
تلتف على رجل الأمير سيف الدولة
– كأسك يا رفيقْ
– معذرةً
عما قليلٍ سوف ينتهي الحفلُ الكبيرُ
ونعود مرة أخرى لبحر سوهاجَ
لكي تنبتَ بين هذي التربة السمراءِ ضحكة الأزهارْ
وكي تمرق حولنا العرباتُ والشجراتُ والفتياتُ
في فضاء ذلك الفجرِ الطليقْ
وكي يموتَ في عرائه أبو الطيبِ
فاتحا عينيه كي تتابعا مشهده العالي
وتحرسا
مديحه المسروقْ.
موت آخر لأبي الطيب المتنبي
تشير القصيدة الي مكان أطلق عليه اسم المزار، وهو مصدر من فعل زار، ولكنه كمكان مبهم لم يقم النص بتقييد حدوده، سوي عن طريق إشارة قدمت الدليل علي وجوده، فبحر سوهاج الذي ينحصر وجوده في تجمع مائي، ربما يرقي الي مستوي البحيرات الصغيرة, يتوسط الطريق من بداية نقطة الانطلاق الي نهاية هذا المزار، حيث يقع في أقصي الجنوب، فلا تنبثق قيمة لهذا المزار، وفقا لذلك من موقعه الجغرافي بعد أن اهمل النص أحداثياته الجغرافية، ولكن قيمته الحقيقية كمكان كانت في وجود حفل أقيم عليه.
في هذا الطريق غير المحدد بالأدلة انطلقت الرحلة في ذهابها مرورا ببحر سوهاج، وكذلك عند العودة في طريق الإياب، ومشهد الرحلة يحصر امتداده إلي جوانب، كما تعودنا أن نراه بشكله الدارج علي شكل لوحة، وعلي الصعيد نفسه، وخلافا لطبيعة اللوحات الساكنة، فإن عناصر الحركة داخل اللوحة، تمد جذورها لتوحي بنوع من سيلان الأشياء وتتابعها. كلما مضت مرحلة ما من مراحل الرحلة، وكلما مضت القافلة باتجاه المزار ، تتوالي تلك الأشياء ضمن حركات التتابع العكسي، مبتعدة عن الطريق المؤدي الي المزار .
” تكون العربات مرقت
والشجرات مرقت
والفتيات اعطين ظهورهن للمصابيح
ولوحن لراكبي مراكب الصيد “
تضمنت اللوحة المرسومة بعناية ذلك الطريق المعبد، وعلي جانبيه ترتفع الأشجار باسقة لتسمح بمرور السيارات، والوقت يقترب من المساء، ولكن مراكب الصيد الصغيرة ما تزال تسعي للصيد من بحيرة هناك، ووجود الصيادين لم يمنع الفتيات من الذهاب إلي الحفل عبر التلويح لهم بالأيدي. اما الرجال فقد انشغلوا بإلقاء التجارب علي أشعارهم، استعدادا للحفل، واللوحة بهذا الشكل لا ينقصها المرح، كما لا ينقصها فرحة الشباب وتوثبهم. تكتمل عوامل البهجة من تشكيلات وضعها النص لطقوس الاحتفال.
” وتسرب القطر الي الأنهار
والسيدات يلتقطن ما يسقطه السقف
من البالون
كي يرقصن في بهاء اللون
وانفراط اللؤلؤ المنثور
كالأمطار
وثمة الموسيقا “
لا تختلف مشاهد البهجة عندما وصلت القافلة إلي المزار، فالأناشيد قد ألقيت علي شكل أشعار مبهجة، وزخات الأمطار انزاحت هينة لتسقط في مياه الأنهار خفيفة مؤتلفة، والنساء يتسابقن لالتقاط البالونات، وهن يرقصن علي أنغام الموسيقي ويتمايلن.
رسمت اللوحة بعفوية طقوس الاحتفال، وفي مناخ يمتلئ بالبهجة،إلي أن حدث ما أوجب الكدر.
أولا: امتزج النص بنوع من الخلط الزمني، فمن بين الطرق المعبدة والمرصوفة والتي تقود الناس إلي المزار بسياراتهم المارقة، أوجد النص شخصية أبو الطيب المتنبي، وهي الشخصية التي تم استدعاؤها إلي حفل القريض هذا في عراء يجاور المزار. وجدنا أبو الطيب في هذا المكان المحدد ينقح قصيدة في مدح سيف الدولة، واستدعاء التاريخ القديم هو إعادة تصنيف وجدولة الأحداث وفقا لنوعيات الحدث، وهو الحدث الذي لم يحدث كما هو مطابق لفعل منطقي وفقا للتوارد التاريخي لتلك الاحداث، ووفقا لجدول الزمن التراتبي.
ثانيا: إن الصورة التي صاحبت هذا العراء المجاور لمنطقة المزار، تأخذ امتداداتها المرحة للطريق المعبد في اتجاه المزار. الخضرة، والعشب اليانع، ثم الفتيات اليافعات.
ثالثا: إن وجود أبو الطيب بقوامه الشخصي قد استدعي بالتماثل وجود شخصيات أخرى لم يعتن النص بذكرها، وهم أولئك الذين قاموا بأدوارهم التاريخية في إفساد العلاقات التي كانت قائمة بين أبي الطيب وبين سيف الدولة، وكمثال، شخصية أبي فراس الحمداني، وكان هذا الوجود التاريخي في الزمن المعاصر مقحما لا يهدف إلا إلى الايحاء بوجود أحداث مشابهة يعاني الشاعر منها الأمرين:
” ووحده ابو الطيب في عرائه العريض
ينقح القصيدة التي سربها الواشون في جرابهم
واشعلوا في خضرة التفاعيل وفي عشب المكان النار
وبدلوا قافية المديح
كي تصير حلقة من الحديد
تلتف علي رجل الأمير
سيف الدولة “
رابعا: إن انتهاء الحفل عند الفجر، يعود بنا إلي نفس طريق الذهاب المرصوف، وإلي بحر سوهاج، وإلي تلك الصورة التي لم تعد مبهجة، وللطريق المشجر الأسيان، وإلي حركة الارتدادات الجافلة للسيارة والناس والأشياء، طبقا لفعل توالي القافلة إلي الأمام مبتعدة عن منطقة المزار، والأشياء تفر مذعورة في الاتجاه الي الخلف.
خامسا: وبذلك يضع النص الصورة القاتمة لما حدث بعد انتهاء الحفل، عندما مات أبو الطيب كمدا، وعيناه لم تزالا مفتوحتين:
” وكي يموت في عرائه ابو الطيب
فاتحا عينيه
كي تتابعا مشهده العالي
وتحرسا
مديحه المسروق “
خامسا: الدراما في هذا النص لها شقان يتوازنان كي يقوما بترسيخ هذا المشهد. أحد هذين الشقين يتعلق بموت أبي الطيب. مات أبو الطيب كمدا وحزنا علي أشعاره المسروقة، وهو التكامل الدرامي البسيط، والشق الآخر ما يتعلق بالتمايز بين طريق الذهاب الي المزار وطريق العودة منه، لا سيما وأن هناك تمايزا في الرؤية بين بهجة الاحتفال ورونقه من جهة، وبين كآبة السلوك المشين وتوابعه من جهة أخرى، والتمايز بين شقين أحدهما مادي بحت، يحتوي علي الألوان والشذا والموسيقي، وبين جانبه السلوكي والإدراكي، هو تمايز في الدرجة، ولا يخل من روعة التصميم وجماله.