تحت الشباك

يكتبها: محمد فيض خالد | مصر

مُنذ خَطّت قَدمي فاغبرّت بهذه البلاد، وأنا أرى عَجَبا عُجَابَا، في البِدءِ شَقَّ الأمرُ ريثما اعتاده، استدعى إيقاظي في سَاعاتٍ اللّيلِ وبواكير نهاري، قديما عوّدت نفسي ألَّا انتَزعها من الفراشِ قبل أن آخذ قِسطَا من الرَّاحةِ كَافيا ، وإني والله لفي عَجب؛ إذ كَيفَ الانصياع لهذه الأمور العَارضة بهذا الانجذاب، كُنتُ في مَهدِ طُفولَتي الغَابر، اطرب لأمثالِ هذا الاِنزعاجِ، فصياح الدِّيكة، وزَقزَقة العَصافير، وزعيق الرِّيفيات أمام كوانين الناَّر، كفيلٌ لأن يُثير حَفيظتي ، تَصَادف تحت شباك غرفتي ساحة فارغة، امتلأت بصنوفِ الخُردة، غسالات ملابس قديمة ، أكوام الحديد لأسرّة مُمزَّقة، نهشت الشّمسُ قواها، مِزقٌ مُتَفرِّقة من الوسَائد والحَشَايا العَطِنة التي أصَبَحت موطِنَا للفئرانِ، ومَرعى للهوامِ ، يبكر ضيفي، مصري جنوبي ضيق الصَّدر حرجا، يبدأ كلامه بنبرةِ توَدّدٍ ممجوج، عبارات ركيكة من الغزلِ الصَّريح، تنسكب من فمهِ تصبغها مراهقة مُتأخِّرة مهتزة ، تصابي مرزول ، يتكلف صاحبه الحب، حِرمانٍ نُقِع فيه ِ قلب الرَّجل، بعد هنيهة يتحول مسار كلامه، فَيُطلِق سَيلا جَارِفا من السِّبابِ، اتزحزح قليلا جهة الموقد، واشرعُ في تهَيئةِ شاي الصَّباح المُعتاد، فالجَلسة حَتما ممتدة، خاصة بعدما استَقرَّ بالرَّجل مُقاَمه ، تبدأ وصلة أخرى أشدَّ ضَراوة، تنسكبُ من فمهِ أسرارا ما كانَ لمثلي أن يعلمها ، يرتدّ على عقبيهِ، يتلطَّف مُحَدِّثه طالبا مهلة، فالظروف قاسية ، يُعَاود مُلاينته في تَلهُفٍ، لينهي حديثه بعبارةٍ واحدة محفوظة :” أدق الإقامة وأنزل دغري “، تتكرَّر هذه الجلسة كُلّ صباح ، ينهيها كما بدأها، حتّى جاء يوم فحدثَ ما كُنتُ أخشَاه، لم يأت صاحبي، أجدبَ المكان، فلم يعد لهُ صوته يُبلّلُ جفاف صَباحي، سَافرَ الرجل دونما إشعار، شعرتُ بفرَاغٍ يَضربُ بأطنابهِ ، اجتَاحَ المَللُ حياتي، اصحو كالمُعتَادِ من نومي فلا أثر لبطلِ هاتيك الحَكَايا التي تُهدهد مسامعي ، مرّت الأيام كئيبة لا اطيقُ صَبرا، لا التفت خلالها لضيوفي الجُدد، لم يكن لوقعِ حكاياتهم ذَلكَ التَّأثير القوي الذي كَانَ ، بل كانت أحَادِيثهم باهتة من صُنوفِ أولئك الذين شَبِعوا بعد جوعٍ ، واُترِعوا بعد شقاء من مُحدثي النِّعمة وما أكثرهم ، كان لي بعض خُلطة مع رفيقه، تَجهّم قليلا وهو يُلملِمُ بقايا نفسه المُتشظّية، ليدفع بمقذوفِ روحه المُحتَرقة “: أبو أمنية تعيش أنت!”، احتَبسَ عَني الكلام ، وكأني لم انطق يوما ، اهتَزت الأرضُ من تحتي، وتشاغبت شياطين المكان في حِلقٍ مظلمة ، تُرفرف بأجنحةِ الشُّؤمِ، ارتدّت ذكرى الأيام حَارة، تستَعرضُ نفسها في تبَجحٍّ أمامي، ابتلعت ريقي المُتَحجِّر ثم انصَرفتُ، وطنين الخوف يغمرني، وجَلبةً لا أعرِف مُؤتّاهَا تلسعُ قلبي المشبوب كالفولةِ فوقَ المقلاة، لا تربطني بالفقيدِ رابطةٍ ، صدّقني حين أخبرك بأنّي لا أكادُ اُفِرقُ سِحنته من بينَ السِّحَنِ المغبرّة بأثقالِ الغُربة الملعونة ، أهو الخوفُ من نفسِ المَصير؟، أم هو الهولُ من مآل يتربص كُلّ مُغتَربٍ ، حَرَمته الدُّنيا مَتاعها، ليجدَ نفسه مُشتّتا بينَ أحضَانِ الغُربَاء، ليصبحُ أثرا بعد عين ، أمسكتُ بدفترِ يومياتي، أدوِّنُ في صفحةٍ بيضاء، وبِخطٍّ مُرتَعشَ :” ماتَ صديقي، مَاتَ رفيق الشُّباك، رَحَلَ دون أن يُخبِرنا عن لُغزِ الغُربة الملعون ،كَيفَ النّجاة من بطشها ، وإنّا على إثرهِ راحلون …”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى