تحليق عابر لطيور الذاكرة: الطريق إلى أنصار 3 (16)
د.سامي الكيلاني
“ساق الله أيام النقب” يسكبها في أذنك شريك لك في خيمة ما في قسم ما في معسكر ما من معتقل النقب الصحراوي، معتقل أنصار “3” كما يسميه المعتقلون، معتقل كتسعوت كما يسميه الجنود السجانون الذين يموتون غيظاً من التسمية الأولى، التسمية الصمودية التي تربط محطة النقب بمحطة الجنوب اللبناني على طريق الآلام الطويل المسمى معتقل أنصار. ثم يفتح جرحك هذا الزميل الشريك الأخ الصديق الرفيق بمبضع من أمله فيك وفي كتابتك الأدبية. “هل كتبت عن يوم الاستنفار الفلاني؟ هل كتبت عن يوم الإضراب الأول؟ هل كتبت عن ذلك الضابط وكيف طلعنا من خرجه؟ هل كتبت عن شقاوة الشبل سلامة الذي كنا نسميه الزغلول؟ هل كتبت عن البلعاوي؟ …”.
تطوي نفسك على نفسك خجلاً من أسئلته، يقرأ التقصير في عينيك وفي ملامح وجهك، يتابع حديثه استجواباً. تحاول بدء الحديث الدفاعي بـ “يا عزيزي اعذرني، إنني …” يصفعك بأمر واضح قبل أن يمضي ويتركك “اكتب، إذا لم تكتب أنت ومن مثلك عن هذه الأيام فمن سيكتب”.
تبتلع بقايا الكلمات التي بقيت معلقة في حلقك، التي جعلها ببساطته وحزمه معلقة. خروجها مؤلم، وابتلاعها مؤلم. لا يوجد عذر تنظيري يطال حزمه وسطوة لسانه المحق كل الحق، والاستجابة التي يستحقها أنصار “3” لا تسعفك بها طاقتك الإبداعية المتوفرة الآن وسط كل هذا التشتت.
تستيقظ على شوكة في خاصرتك تخزك بلطف ثم تتفتح من خشبها اليابس زهرة لونها منفرد بين الألوان، تدقق فيه، تقرأ في تفاصيله طيفاً من الرمل والدماء والخضرة المسروقة على خلفية من شفق الغروب الصحراوي اللذيذ الذي كان ينسيك للحظة أنك في معتقل صحراوي لئيم خطط له أن يكون مقبرة لكل قوي وجميل فيك، مقبرة لإنسانية الإنسان السجين وما تبقى من إنسانية لدى سجان نفذ من تحت السكين. الشفق يجعلك تسرح وتتحدث عن أيام قادمة ستأتي فيها مع أولادك أو أحفادك لتخيّموا هنا وتقول لهم انظروا ما أروع الشفق، هنا كان معسكر أنشئ ليكون مقبرة فصيّرناه رحماً يلد آلاف التوائم بعد كل مخاض.
كانت الطريق إلى النقب في المرة الأولى “عنواناً للمكتوب” بدأت من سجن جنيد قرب نابلس. لا يمكن أن تمحى من الذاكرة تلك اللحظات الصباحية. كنت أفكر في الزيارة الموعودة في اليوم التالي، كنت أعيش ساعات الصباح الأولى المحببة إلى النفس، لأنها نقية في كل شيء، وفي المقدمة من ذلك نقاؤها من احتمال التفتيش الذي تجريه إدارات السجون تنكيداً للسجين وتذكيراً له بأن إدارة السجن وكل السجانين له بالمرصاد. كانت صور الزيارة الموعودة تملأ كياني، سيأتي طفلي المولود قبل أيام لأراه للمرة الأولى. دخل ضابط ومعه عدد من الحراس، بدأوا بقراءة مجموعة من الأسماء، طلبوا من الذين يسمعون أسماءهم أن يحضروا أغراضهم.
أدركنا الأمر. سننتقل إلى النقب. عملت على حزم أمتعتي في الحقيبة التي صنعتها من بنطلون الجينز الذي أسلم روحه، خطتها بالخيط والإبرة بصبر عماده الوقت المفتوح، وروح الإبداع الاعتقالية. تشاورنا، هل نحمل معنا الكتب لنجد ما نقرأه هناك، أم أن الكتب التي سنحملها سيكون مصيرها المصادرة والرمي في الزبالة؟ قررنا المغامرة بحمل عدد قليل من الكتب وليعوضنا الله، خسارة كتاب من كتب السجن خسارة كبيرة.
أراد الجنود المسؤولون عن الحراسة أن يجعلونا نقرأ العنوان جيداً، طلبوا من كل شخص أن يخرج قطعة من ملابسه لتكون عصبة للعيون، ضحكت في سريري، “من دهنه قلّي له”، على رأي جدتي. مارس الجنود مهمة التأكد من شد العصبات على العيون حتى لا يتسرب أي خيط من النور. أتموا كل ذلك في الردهة الداخلية المقابلة لأحوال السجن، واقتادونا عبر الباب الداخلي إلى الساحة الخارجية ثم إلى الباصات. الأجواء نفسها التي تخيم على عملية النقل، النقل بواسطة “البوسطة” كما يطلق عليها في القاموس الاعتقالي، الأجواء نفسها مضاعفة عدة مرات نتيجة للصورة المستمدة من القصص الرهيبة التي تتناقلها الصحف عن هذا المعتقل الصحراوي الرهيب. أجواء نفسية جعلت الأسطوانة التي تدور عادة في لحظات الاعتقال الأولى في رأسي تشتغل دوراناً متواصلاً، وكأن الأمر انتقال من حرية إلى اعتقال… “وانتهى الحلم الجميل وابتدى الهم الثقيل” … كلمات أحمد فؤاد نجم في قصيدته التي رددتها في كثير من الأمسيات الثقافية في غرف وزنازين المعتقلات عن ظهر قلب، انقلب الاعتقال في سجن جنيد إلى حلم جميل مقارنة مع الذهاب إلى النقب. هوّن عليك، كل السجون سجون ولو زاد أحدها عن غيره في صفة لئيمة أو أخرى أو في درجة القمع.
دخلنا الباصات في الحادية عشرة صباحاً. الوقت يمضي والباصات في أماكنها، نجلس في داخلها معصوبي الأعين مقيدي الأيدي. القيد يضغط على أيدي كثيرين وأنا منهم. هكذا يبدأ الاحتكاك بين ركاب “البوسطة” وحراسها عادة، يطلب أحد المعتقلين تخفيف شدّ القيد عن يده فيصيح به أحد الجنود شاتماً، وربما ضارباً فيشارك جندي آخر بالشتيمة ويضرب حديد الكرسي بهرواته لإثارة الرعب أو يضرب أقرب المحتجين إليه. أربع ساعات من القيد والتعمية والشتم والتوتر الذي وصل حافة الانفجار لولا تدخل بعض المعتقلين المؤثرين. هذه أهم ميزة للقيادة الاعتقالية، التدخل قبل الانفجار حين تكون المواجهة غير محسوبة، أربع ساعات من القيد والتعمية في صندوق حديدي في حر شهر آب. ساعات لا تنسى. أصوات صراخ تنطلق من الباص الآخر، رفعت العصبة خلسة عن عيني، نظرت من الشباك، الأشياء التي تراها خلسة وفي هكذا لحظة تنطبع في ذهنك كما تنطبع الصورة على الشريط السالب في آلة التصوير، كان جندي يحمل هراوته ويدخل الباص بحركة اقتحام موقع عسكري وجندي آخر يضرب جمال الجالس على الأرض معصوب العينين في الشمس اللاهبة، كان بسطار الحارس اللئيم على ظهر جمال.
وأخيراً تحركت الباصات – خفت وطأة الحر قليلاً – كانت الطريق طريقاً للآلام فعلاً بكل تفاصيلها. من طريقة الحديث بيني وبين جاري، أدركت لماذا يتحدث الأعمى دون أن يحرك رأسه، فلماذا يحرك رأسه ما دام المشهد سواداً بسواد. ضبطنا أحد الجنود ونحن نتهامس، هوى بكفه على رقبة جاري على حين غرة، أصعب الضربات تلك التي تتلقاها وأنت أعمى. أبو حسين المصاب بالسكري بدأ يطلب بإلحاح أن يسمع له بالتبول، وضّح للجنود باللغة العبرية التي يتقنها أنه مصاب بالسكري ولا يمكنه الاحتمال أكثر، قال إنه قد يبول في ثيابه. بدأ أحد الجنود بالسخرية منه لأنه يتصرف كالأطفال على رأي الجندي. بعد أكثر من ساعتين وقف الباص في محطة وقود، أحد الجنود قاد أبا حسين إلى دورة المياه وبقي واقفاً إلى جانبه يحثه على الإسراع، لم يستطع التبول لأسباب نفسية على ما يبدو، عاد إلى الباص وهو يتألم وبقي كذلك إلى نهاية الطريق.
عندما توقفت الباصات انتظرنا رفع العصبات عن عيوننا طويلاً، شعرنا أن دهراً قد انقضى بين وصولنا ورفع العصبات عن العيون المتعبة. هذا هو أنصار “3”، كتسعوت، معتقل النقب الصحراوي: خيام ممتدة، كشافات ضوئية، أشخاص يتحركون خلف الأسلاك الشائكة، أصوات تنادينا مستفسرة عنا، من نحن، من أين جئنا. وأخيراً ارتاح رسغي من القيد اللعين، كانت يدي خدرة مزرقة الجلد وآثار “الكلبشات” بادية عليها ككي النار، وبقيت هذه الآثار لعدة أيام. وضعنا في ساحة، توزع الكثير من الجنود والضباط حولنا وهم بكامل عدتهم، الأسلحة وأقنعة الغاز بأيديهم. كل جندي جاهز لإعطاء الأوامر والصراخ والشتائم. بدأت معاملات دخولنا إلى المعتقل، تسجيل الأسماء والتاريخ المختصر عن الاعتقال الحالي والاعتقالات السابقة والسجون التي دخلتها، وحتى تتم الأصول يعرضونك على طبيب ليقول إن كنت تصلح للاعتقال أم لا، فيكتب كلمة “كوشر” بالعبرية، تماماً كالكلمة المكتوبة على الطعام المسموح أكله شرعاً لليهود المتدينين، إذن أصبح أكلنا حلالاً، فيما بعد وضح لي أحدهم أن هذه كلمة أخرى حركات حروفها مختلفة عن تلك، ولم أرسِ على بر سوى أنه كان صادقاً في تحليل أكلنا كطعام لآلة هذا المعتقل البغيض، فهكذا كانت المعاملة تدل وتشير. أخذوا منا كل الأشياء التي أحضرناها من جنيد، الملابس والكتب والدفاتر، وما حملناه من السكر والشاي والقهوة والسجائر التي كنا نشتريها كمعتقلين إداريين من كنتين السجن. تسلم كل واحد منا أربع بطانيات وغيار خارجي، لم يسمح بالمناقشة أو تغيير شيء، إن كان نصيبك نصف بطانية فهي بطانية كاملة إذا قال الضابط ذلك وعليك أن تسكت، الملابس صغيرة كانت أم كبيرة، تلائمك أو لا تلائمك، ممزقة أم سليمة، نظيفة أم مليئة بالغبار وعرق الذي سبق ولبسها… هذه أشياء لا يسمح بالنقاش فيها. فضّل الكثيرون عدم النقاش لاستعجال لحظة الدخول إلى الخيام ورؤية الذين سبقونا إلى هذا المكان، وإلقاء أجسادنا على أي شيء والنوم.
وأخيراً – ما أروع هذه الكلمة بالنسبة للمنتظرين– دخلنا القسم في الساعة الثالثة فجراً، استيقظ معظم المعتقلين في القسم، تحدثنا قليلاً وأجّلنا الأحاديث الطويلة للأيام القادمة. النوم، ما أحلاه بعد كل هذا التعب ولو على حجر. أخذ كل منا قطعة اسفنج تدعى ظلماً فرشة ووضعها على “مشتاح” وغطس في نوم عميق. افتقاد الوسادة جعلني أتقلب قليلاً قبل أن يلفني النوم الثقيل كالقتيل. لم تزعج خشبات “المشتاح” ضلوعي، من حق الإسرائيليين أن يفتخروا بأن كلمات عبرية مثل هذه قد دخلت حلبة التداول اليومي بنفس القدر الذي يحق للفلسطينيين أن يفتخروا بأن كلمة مثل انتفاضة قد دخلت اللغات الأخرى وأدرجها قاموس إنجليزي بين مفرداته.
سحبني صوت شاويش القسم من عز النوم “عدد يا شباب”، خرجنا إلى الساحة نفرك العيون، وضح الشاويش طريقة العدد في هذا المعتقل، الجلوس في صفوف، الأيدي خلف الظهر، وأضاف أن المعركة ضد هذه الطريقة التي يهدف منها إذلالنا ستبدأ خلال يوم أو يومين، فأنصار “3” الذي قدّم شهيدين قبل أسبوعين لن يقبل بهذا الحال، “عدد” متميز، جنود مدججين بالأسلحة ومدافع الغاز داخل القسم ومصفحة يعلوها رشاش ثقيل وراء السياج. انتهى العد وانطلقنا نبحث عن المعارف والأصدقاء ونفرغ كنز المعلومات الطازجة التي نعرفها عن الوطن والسياسة والأهل لأولئك المعزولين الذين سنكون جزءاً منهم. مهما كانت الملابس التي ترتديها غريبة ومضحكة فإنك لا تنتبه إلى ذلك الشكل المضحك المحزن الذي تؤول إليه داخل قميص مقطوع الأزرار وبنطلون يزيد خصره عن خصرك بعرض الكف فتعمد إلى ربط عروتين متقاربتين عن اليمين وأخريين عن الشمال بقطعة سلك أو حبل لأن الحزام هو أداة خطيرة لا يمكن إدخالها. ما أسخف عقلية السجان! يقال إن منع دخول الأحزمة عائد إلى الخشية من استعمالها أداة للانتحار أو القتل وذلك في مكان مليء بالحبال وكل وسائل الانتحار والقتل لمن يريد ذلك، الأصح أن تقول أي لؤم هذا الذي تقدر عليه عقلية السجان حتى في هذه الأمور الصغيرة. هذه الملابس لا تغيّرك في عين نفسك، لكن حين تراها على شخص آخر تعرفه خارج المعتقل تدرك لماذا يأخذون الملابس المرتبة التي تلائمك ويعطونك هذه الخرق، يريدون لكل شيء حولك أن ينطق بالبؤس. يبحثون عن كل ما يجعلك تعيش نفسية صعبة. لم يتعلموا – والأصح أنهم لا يريدون أن يتعلموا – أن المناضل الذي يعرف هدفه يستطيع أن يفتح في أي جدارٍ ثغرةً يمر منها نور الحياة.