استخدام لغة السرد في بناء القصيدة العربية الحديثة, خدعة المجاز:

د. عمر هزاع|قطر

قد يجزم بعض النقاد بأن الشعر لا يقوم إلا على لغة المجاز وصوره الاستعارية والتشبيهية, وقد ينخدع بعض الشعراء بهذا الكلام، فيغرقون القصيدة بماء المجاز ويصعقونها بشحنات فائضة من كهرباء اللغة المفتعلة ويوارونها أضرحة التراكيب المجازية المولدة، حتى لا يكاد القارئ يلتمس في جثتها نفسا ولا يجد في بقايا رمادها بعد طول بحث وتقليب سوى ركام جمرات خافتة للوحات معرض ناشز، لا تبهج ناظرا ولا تشعل طقسا ولا ترقى إلى إضرام نار قصيدة حقيقية.
إلا أن المجاز – بحسب تودوروف (تزيفيتان تودوروف في كتابه: الأدب والدلالة) – قد يقع خارج فضاء الشعر كما قد يقع الشعر داخل فضاء الفنون النثرية فيتخذ من لغة السرد مادته التي يشكل منها القصيدة.
وفي ذاكرة مدونة الشعر العربي الكثير من الشعراء الذين فتحوا أبواب الفنون على بعضها فتأثرت قصائدهم بها, فكانت مزيجا مذهلا ينافس أعتى صور المجاز المزركشة في القصائد التي فصلت قماشاتها من نسيج بلاغي شعري معياري.
ولعل قطعة من قصيدة (لم تأتِ) للساحر محمود درويش؛ تعينني على النأي بالنفس عن الاستعراض بنموذج من تجربتي الشخصية كي لا تبدو المقالة مفتعلة لأجل هذا الغرض؛ وتثبت لنا عبقرية الشاعر وقدرته على التبرئ تماما من لغة المجاز ومدافعتها خارج أسوار القصيدة والجنوح لشعرنة النثر المحض لتكون القصيدة بين يديه خلقا جديدا بمفهوم جديد لم يستطع بعده كثير من الدروايش أو المتدروشين فهم سرها والتقاط إشارات مكنونها الشفيف, فاستبد بهم الاتباع والتقليد وأخذتهم العزة بالغرائبية والعجائبية فتزحقلوا على قشرة التجربة ولم يصلوا لحرارة لبها الحارق.
في كل قطعة من هذه القصيدة نجد أن درويش لا يعق المجاز فيكتفي بلغة السرد الناصعة لصناعة القصيدة؛ فحسب – وإنني إذ أقول صناعة فهي الصناعة الذكية التي تقوم على أركان متينة من موهبة الشاعر ومهارته ومخزونه المعرفي؛ بالتكافئ – بل يتعدى ذلك إلى تقنيات هامة يمكن تلخيصها في الومضات السريعة التالية:
– كبح الدفق الموسيقي الخارجي وتحويل مساره إلى موسيقى داخلية للأبيات؛ باندغامها المتتابع؛ لتظل القوافي خبيئة السطور (رغم إمكانية الوقف على القوافي الخارجية بكفاءة عالية).
– تخفيف عنفوان القوافي الأساسية وتحويل الضوء عنها ليتوزع على كثير من النقاط النشطة داخل القصيدة, فيصبح في مقدور كل منها أن تكون قافية بذاتها يمكن الوقوف عليها أو المتابعة.
– الهبوط بمستوى اللغة من هوائية صرحها المثالي العالي إلى ترابية الكلام العادي البسيط.
– استخدام الأسماء الأجنبية والألفاظ الشعبية بشكل مقنن ومدروس.
– استخدام تقنيات العرقلة والتثبيط بأشكالها المختلفة من حوار وتقاطعات واعتراضات.
– التخلص البارع من كل أشكال الزينة اللفظية المتكلفة والترصيع البياني الثقيل, وإفراغ القصيدة من أي أسلوب مجازي صوري, لتكون مادة لغتها نثرية (سردية) نقية من المجاز بكل أشكاله.
ورغم ذلك فقد أنجز قصيدة بأنموذج سردي لافت يطعن بها توقعاتنا الخائبة, ويضيء جراحات الدهشة في النفس البشرية بفطنة وشاعرية وبساطة متناهية, ويكسر مفهوم الدرع المجازي – عمدا – بتعكيره صفاء النموذج المختزن في الذاكرة عن مفهوم الشعر, وبخدشه نعومة الصنم التقليدي القابع في أذهان الشعراء, عبر تصادمه المحسوب والدقيق والمقصود مع رشاقة اللغة المثالية وسحرها وفتنة الانسياق إلى تيارها القوي. لتكون قصيدته الفجائعية هذه واحدة من أقسى أنواع الانتقام.
إن هذه القصيدة – ومثلها كثير في شعر درويش وشعر سواه أمثال: الصائغ, عدوان.. إلخ – لا تعد كسرا لقاعدة المجاز الشعري فحسب بل تتعداه إلى مقاومة النسق الإيقاعية القوية والتمرد على موجة الصور البيانية المتدفقة لتخفيف وطأتها, واللعب بالقصيدة على أرضية من التوتر المثير لكل ما هو رتيب ومكرور, للوصول بها إلى مرمى الهدف.
ـــــــ
* القصيدة كاملة:
لم تأتِ/
قُلْتُ: ولنْ/
إذاً سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي وغيابها/
أطفـأتُ نار شموعها، أشعلتُ نور الكهرباء، شربتُ كأس نبيذها وكسرتُهُ، أَبدلتُ موسيقى الكمنجات السريعةِ بالأغاني الفارسيّة/
قلت: لن تأتي/
سأنضو رَبْطَةَ العنق الأنيقة؛ هكذا أرتاح أكثر؛ أرتدي بيجامة زرقاء, أمشي حافياً؛ لو شئتُ؛ أجلس بارتخاءِ القُرْفُصاءِ على أريكتها، فأنساها, وأنسى كل أشياء الغياب/
أعَدْتُ ما أعددتُ من أدوات حفلتنا إلى أدراجها, وفتحتُ كُلّ نوافذي وستائري/
لا سرّ في جسدي أمام الليل إلا ما انتظرتُ وما خسرتُ/
سخرتُ من هَوَسي بتنظيف الهواء لأجلها/
عطرته برذاذ ماء الورد والليمون/
لن تأتي/
سأنقل نَبْتَةَ الأوركيدِ من جهة اليمين إلى اليسار لكي أعاقبها على نسيانها/
غَطّيتُ مرآة الجدار بمعطفٍ كي لا أَرى إشعاع صورتها, فأندم/
قلتُ: أنسى ما اقتَبَسْتُ لها من الغَزَل القديم، لأنها لا تستحقُّ قصيدةً حتى ولو مسروقةً/
ونسيتُها/
وأكلتُ وجبتي السّريعةَ واقفاً/
وقرأتُ فصلاً من كتابٍ مدرسيّ عن كواكبنا البعيدةْ..
وكتبت؛ كي أنسى إساءتها؛ قصيدةْ..
هذي القصيدةْ..
ــــــــــــــــــ
* الفكرة مستوحاة من عدة مراجع وقراءات..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى