عن النقابات وديمقراطيتها وهويتها الوطنية
نهاد أبو غوش
ثمة إشارات تدعو للتفاؤل وتنبئ بإمكانية تعديل القرار الإشكالي بشأن نقابة الأطباء على نحو يحفظ الحقوق الديمقراطية والمهنية والصحية للأطباء وللمجتمع الفلسطيني بشكل عام، فالمشكلات والمخاوف التي أثارها القرار بقانون لحل النقابة القائمة وتأسيس نقابة جديدة، أكبر بكثير من الحلول التي سعى لإيجادها، فقد أثار هذا القرار جدلا واسعا وخلافات عميقة في المجتمع الفلسطيني في ظل ظروف حرجة كان الفلسطينيون أحوج ما يكونون إلى التضامن والوحدة لمواجهة الهجمة الإسرائيلية المسعورة على مدينة نابلس وعلى كل مظاهر المقاومة ورفض الاحتلال.
كان لافتا الانقسام المسبق بين مؤيدي القرار ومعارضيه، فمعظم القوى السياسية والنقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني وبخاصة المؤسسات الحقوقية رفضت القرار لكونه يشكل انقلابا على عملية ديمقراطية جرت قبل خمسة شهور فقط، وجاء من دون التشاور مع الأطباء وممثليهم ولا مع القوى السياسية والمجتمعية، كما مثّل تدخلا عنيفا في شؤون نقابة مهنية عريقة، وانحيازا لطرف نقابي وسياسي سبق له المشاركة في انتخابات النقابة عينها، ضد الطرف الآخر الفائز في الانتخابات. وفي المقابل وجد القرار من يؤيده بحجة “فلسطنة” النقابة، والانحياز للمواطنين وحق المرضى في العلاج أمام “تعسف” النقابة في لجوئها المتكرر لقرارات الإضراب.
الهوية الفلسطينية للنقابة، ومع التأكيد على وجوب إيجاد حل نقابي ووطني للعلاقة بين جسمي النقابة في غزة والضفة بما فيها القدس، فإن إشهار هذه الحجة لم يكن سوى ذريعة لتمرير التدخل في شؤون النقابة والانقلاب عليها، وإلا فأين كان هذا الشعار على امتداد 28 عاما من عمر السلطة الفلسطينية، و34 عاما مرت على قرار فك الارتباط؟ أين كان هذا التوجه حين كان القائمون على النقابة من حزب السلطة، وبعضهم ممن وردت أسماؤهم في القرار الأخير لهيئة تأسيسية للنقابة الفلسطينية؟ وهل جرى فعلا التدقيق في التبعات السياسية والقانونية والحقوق المالية والتقاعدية للأعضاء؟ وماذا بشأن أطماع الاحتلال في مؤسسات القدس وقيامه بإغلاق المؤسسات والسطو على كل ما هو فلسطيني، وأخيرا وليس آخرا: إذا كان الفلسطينيون جميعا قد ارتضوا بوعي وثقة ائتمان الأردن وقيادته الهاشمية على أقدس المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، فهل تثلم هويتهم الوطنية أو تتأذى إذا ما تأجلت قضية حسم العلاقة بين بعض النقابات الفلسطينية والأردنية، والكل يعلم الدور الوطني الشجاع والمميز الذي لعبته النقابات المهنية الأردنية عبر تاريخها في دعم الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية ومساهمتها في تأمين صموده.
وما يزيد القلق بشأن مستقبلنا السياسي والاجتماعي، أن القرار المتعلق بنقابة الأطباء، جاء في سياق سيل لم يتوقف من القرارات بقانون والتي بلغ عددها أكثر من 350 قرارا تشمل كل مناحي الحياة، وهذا التوسع في إصدار القرارات بقانون وحسم جميع الخلافات والقضايا المثارة بمراسيم رئاسية جاء في ظل تغييب المجلس التشريعي، وعجز القوى السياسية عن التأثير، مع أن النص الدستوري الذي يمنح الرئيس صلاحية إصدار قرارات بقانون، يربط هذا الإجراء ب”حالة الضرورة القصوى التي لا تحتمل التأجيل” وهو شرط غير متحقق في معظم الحالات التي جرى فيها إصدار هذه القرارات.
أدى هذا الوضع إلى مركزة جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الرئيس، فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن السيد الرئيس مثقل بالهموم والمشاغل الوطنية الكبرى التي تستأثر بجل وقته واهتمامه، من هجوم إسرائيلي شامل لتصفية حقوقنا الوطنية إلى وضع دولي معقد تستثمره دولة الاحتلال للاستفراد بنا، إلى وضع عربي مفكك ومنقسم إلى محاور وعاجز عن دعمنا هذا إذا لم يتواطأ مع عدونا، إلى انقسام داخلي طال وبات يهدد بالتحول إلى انفصال، إلى أزمات داخلية معيشية وأمنية، إزاء كل ذلك فإن من المستحيل أن يجد الرئيس الوقت الكافي للتدقيق والتمحيص في مختلف هذه القوانين وصياغاتها، وبالتالي تصبح مهمة صياغة هذه القوانين وتفصيلها هي مهمة الدائرة المحيطة بالرئيس والتي يبدو أنها باتت تستسيغ الحلول محل كل مركبات المجتمع من قوى سياسية واتحادات شعبية ومؤسسات منظمة تحرير إلى المجتمع المدني وصولا للسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
ليس بالضرورة أن نتفق مع نقابة الأطباء ونوافق على جميع قراراتها كي ندافع عنها، فكثير من هذه القرارات وخصوصا الإضراب عن العمل كانت حادة وإشكالية وتسببت بمعاناة فئات هي في الأصل ضعيفة ومهمشة وتحديدا المرضى والفقراء، ولعل هذا الأمر، أي لجوء النقابة للإضراب، يتطلب نقاشا موضوعيا وهادئا ، وهو مماثل للنقاش الذي تثيره إضرابات المعلمين اثر نزاعاتها مع وزارة التربية والتعليم والحكومة، يقودنا ذلك إلى ضرورة إيجاد مواثيق شرف ومدونات تحمي حقوق المواطنين والمرضى والطلاب وكل الفئات المتضررة من الإضرابات، فنزاعات هذه النقابات هي مع الحكومة وليست مع جمهور المستفيدين من خدماتها، لكن احترام استقلالية نقابة الأطباء وسائر النقابات وعدم التدخل في شؤونها يبقى حقا رئيسيا من حقوق الإنسان الفلسطيني كل في نقابته وإطاره التمثيلي، ومبدأ من المبادئ والثوابت الرئيسية التي لا ينبغي التفريط بها أو التنازل عنها إذا أردنا الحفاظ على مجتمع فلسطيني قوي ومتماسك قادر على الصمود في وجه مخططات الاحتلال.
ثمة الكثير مما يستحق النقاش بشأن النقابات، ولعل أهم ما ينبغي التركيز عليه هو ضرورة الموازنة بين السياسي والنقابي المطلبي في عمل النقابات، فلسنوات طويلة طغى السياسي الوطني على المطلبي، ولعل ذلك نشأ من انخراط كل مؤسسات مجتمعنا في صياغة الهوية الوطنية تحت رايات منظمة التحرير الفلسطينية، لكن الأمر ينقلب أحيانا إلى تحويل النقابات والاتحادات إلى ساحة صراع حزبي فئوي مقيت لا يريد من النقابات سوى أن تكون واجهة سياسية ودعائية للحزب الذي يقودها، وليست مؤسسة نضالية من أجل حقوق أعضائها ومصالحهم.