قلمي الذي أبكاني

قصة: عبدالله علي أبو طالب عليوة| مصر
كان الليل ساكنًا إلا من أنين داخلي يشبه حفيف الورق في الريح.
جلست إلى الطاولة، أمامي القلم الذي رافقني منذ سنين… صامت، ينتظر.
نظرت إليه طويلًا، كأنّي أعاتب صديقًا خذلني ذات يوم، ثم قلت له بصوتٍ خافتٍ متعب:
“اتركني وحالي يا قلم…
من قال إن الفقير يحق له أن يكتب؟
الكتابة رفاهية يا صاحبي، وأنا لا أملك ثمن الرفاهية.”
بدا القلم في صمته كمن يسمع جيدًا.
واصلت كأنّي أفرغ ما تبقّى في صدري من حبرٍ يابس:
هل تدري كم من الكلمات احترقت في صدري لأن الوقت ليس لي؟
هل تعرف كيف يكتب الجائع وهو يحمل في بطنه فراغًا، وفي قلبه ألف وجع؟
أيّ إبداعٍ هذا الذي يولد على أنقاض الجوع؟
أنا لا أملك سوى يومي الذي يأكله العمل، وساعاتي التي تمضغها الهموم.
كم من مبدعٍ قتلته الحاجة،
وكم من كاتبٍ حالمٍ منعته الدنيا أن يمسك بقلمه.
كم قتل الجوع من إبداعٍ قبل أن يولد!
وكيف أمدّ يدي إلى الورق، وهناك أيادٍ صغيرة تنتظر مني ما هو أكثر من الحروف؟
كيف أستغرق في الحلم، وعيونٌ بريئة تترقب لقمةً لا وعدًا؟
أنا لست وحدي يا قلم، إنّ على كتفيّ أعمارًا لم تنضج بعد،
تتوكأ على قلبي لا على سنّك،
وأنا المرهق بين واجبٍ لا يؤجل، وحلمٍ لا يموت.
اتركني يا قلم… فما عدتُ ذاك الحالم الذي يخطّ الحروف وهو يظنها خلاصًا.
لم يعد فيّ ما يُكتب، ولا في الدنيا من يقرأ ما نكتب.
مررت يدي على الأوراق المبعثرة أمامي، كانت رمادًا لذاكرةٍ أحرقتها بيدي يوم قررت أن أتخلص من وهمي.
“أتذكر تلك الليلة؟ حين أشعلت النار في دفاتري؟
كنتَ أنت آخر ما رميته… ثم تراجعت، أبقيتك لأجل الذكرى، لا لأجل الكتابة.
فلماذا عدتَ الآن؟ لماذا تذكّرني بما حاولت أن أنسى؟”
ساد صمتٌ طويل.
ثم، كأنّ القلم تنفّس فجأة، سمعته يهمس في قلبي قبل أذني:
“وإن تركتَني، فبمن تشكو؟
ألم أكن أنا من يفرّج عنك حين تضيق؟
ألم تشعر أنك تملك الدنيا حين تكتب ولو كنت لا تملك قرشًا؟
كنتُ أنا وطنك حين ضاقت الأوطان،
وصوتك حين خنقتك الدنيا،
وأنيسك في غربتك الطويلة بين الجدران.
أتذكر كم مرة كتبت بي ما لم تستطع قوله؟
حين بكيت دون دموع، كنت أنا دموعك.
وحين صمتّ أمام الناس، كنت أنا من صرخ عنك.”
سكت القلم قليلًا، ثم تابع بصوتٍ يشبه العتاب الحنون:
“تقول إن الفقر حائلٌ بيني وبينك…
لكن هل منع الفقر قلبك من أن يشعر؟
هل أطفأ النار التي بداخلك؟
الكتابة ليست ترفًا يا صاحبي، إنها النجاة الأخيرة للذين لا يجدون سبيلاً آخر للحياة.
لا تتركني كما تركت أوراقك، فإنك حين تحرق الحبر، لا تطفئ الألم، بل تؤجله.
أنا لست ترفًا… أنا بقاياك التي لم تمت بعد.”
سكتُّ، شعرتُ أن الكلمات تخنقني أكثر مما تواسيني.
رفعت القلم بيدي المرتجفة، قلّبته بين أصابعي كأنّي أتلمّس نبضًا غائبًا.
كان يبدو صغيرًا، لكن ثقله في كفيّ كان كوزن عمري كله.
كانت الطاولة خالية إلا من الغبار، وبقايا رماد أوراقٍ احترقت ذات يأس.
مددتُ يدي دون وعي إلى درجٍ قديم، فوجدتُ في عمقه ورقة واحدة نجت من الحريق،
التصقت بحافتها بقايا رمادٍ أسود كأنها تحمل أثر الذين رحلوا.
وضعتها أمامي ببطء، كأنّي أضع قلبًا على طاولة التشريح.
أعدت القلم إلى مكانه فوق الورقة البيضاء.
حدّقت فيها طويلاً…
بياضها يشبه الصفحة التي لم تُكتب بعد، أو الكفن الذي ينتظرني في آخر الطريق.
ترددت بين أن أكتب أو أكسر القلم.
وفي اللحظة التي لامست فيها الورقة، انهمرت دمعةٌ على السطر الأول،
فأذابها الحبر وصارت كلمة.
لم أعرف أهي بداية جديدة… أم آخر ما سأكتب.



