شعرية التناص في ( ناعية القصب ) للشاعر حازم رشك التميمي

أ. د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

   يعزو كثير من النقاد المعاصرين السبب في ظهور مصطلح التناص,واستخدامه في الخطاب النقدي المعاصر, إلى تأثير المدرسة البنيوية وما فرضته من قيود صارمة على دراسة النص الأدبي, إذ رفضت في تناولها للنصوص الأدبية كل أثر يشير إلى المبدع ,وآرائه, ورؤاه الفكرية ,وأكدت أن النص الأدبي بناء لغوي قائم بذاته, ويفسر نفسه بنفسه ,ومن ثم فهولا يحتاج إلى مؤثرات خارجية تقحم فيه إقحاما , فنظرية التناصية في رأي هؤلاء النقاد قامت لمواجهة مغالاة البنيوية ,والتخفيف من تأثيرها من خلال إفساح المجال أمام التيارات النقدية الجديدة ,لكي تأخذ دورها في الساحة النقدية [1].

 واختلفت النظرة إلى النص باختلاف المناهج النقدية التي قاربت معناه، وصاغت مفهومه, فقد اعتبرت النظرية البنيوية النص بنية لغوية مغلقة على ذاتها، مكتفية بذاتها، لا تحيل على أية مرجعية أخرى تقع خارج النص، في حين بحثت النظرية السيمولوجية في مكونات النصوص البنيوية الداخلية، وفي مولداتها وأسباب تعددها ولا نهائيات الخطابات والنصوص، وفي العلاقة التي تربط النص بغيره من فروع المعرفة الأخرى [2],والتناص بمختلف مستوياته, وصوره انعكاس لطبيعة الصيرورة الثقافية القائمة على مبدأ المدخلات- المخرجات, النص كمعطى ثقافي هو ترجمة لبيئة ثقافية معينة، وعبر قراءة التناص يمكن استنتاج أو استكشاف طبيعة بيئة النص والميكانزمات الفاعلة فيها, ومعطياتها التي يمثل النص الأدبي أحدها, والتناص أو التناصص تعبير حديث مصطلحاً ولكنه متعارف ومألوف  من قبل، يدل على مدى تقارب نصين من بعضهما، تقارباً لفظياً صورياً أو تقارباً دلالياً موضوعاتياً، والأول هو الأكثر وروداً وعناية في القراءات النقدية [3],  وأهمية التناص تتجاوز النص الأدبي ,وصاحبه بالمنظار الاجتماعي، إلى طبيعة العوامل المؤثرة في البيئة واتجاهاتها، وبالتالي أثر هذه العوامل في طرائق التفكير, والسلوك, والظواهر الاجتماعية, والسياسية الطافية على سطح المجتمع, بحيث يمكن استنتاج طبيعة تلك العوامل, واتجاهاتها في مرحلة محددة، مثل مرحلة الحرب ,وما بعدها ,هنا بعبارة أخرى يمكن الإفادة من قراءة التناص في رسم خارطة المكان والزمان, ووفق قراءة أوسع لظاهرة التناص يمكن تصنيف بيئة معينة ,أو مدة زمنية معينة, وفق معيار اجتماعي ديني أو سياسي، اقتصادي زراعي أو صناعي، مستواه من الحضارة وتنافذه الثقافي مع الآخر, أن التناص داخل بيئة ثقافية محددة، ليس سوى الـتنافذ مع بيئة ثقافية غير محددة أو خارجية, وهكذا يمكن الانتقال في عملية التلقي الأدبي من مجرد القراءة النقدية الفنية إلى القراءة الاجتماعية بتموضعاتها ,وتناصاتها المتداخلة في الإطار العام للبيئة والمرحلة [4].

ويشكل الموروث الديني مصدرا مهما من المصادر التي استفاد منها الشعراء المعاصرون في مد تجاربهم الشعرية بنسغ الحياة, وإعطائها صفة الديمومة والبقاء , وإكسابها قوة وفاعلية , وذلك لما يشكله الدين من حضور قوي لدى عامة الناس ,ولما يتمتع به من قوة تأثيرية عظيمة,هذا فضلا عن كون الدين يمد الشعراء بنماذج أدبية رائعة ربما لا يجدونها في مصادر أخرى [5],ومن بينها القرآن الكريم الذي يتميز من بين معظم المصادر الدينية بحضور واسع وقوي , في الشعر العربي المعاصر,وشعر حازم التميمي خاصة وذلك لما تتميز به اللغة القرآنية من أشعاع ,وتجدد , ولما فيها من طاقات أبداعية تصل بين الشاعر, والمتلقي بحيث تستطيع التأثير في المتلقي بشكل مباشر, يضاف إلى ذلك قابليتها المستمرة لإعادة التشكيل والصياغة من جديد بحيث يستطيع عدة شعراء أن يستثمروا الآية الواحدة , من خلال إسقاط مغزاها , أو شكلها على أزماتهم الخاصة, لتعبر عن تجاربهم الفردية , من دون أن يلتزموا صيغة واحدة, ويغطي التناص القرآني في شعر حازم التميمي مساحة واسعة,فقد وجد شاعرنا في القرآن الكريم نهرا متدفقا لا يتوقف, يثري من خلاله تجربته الشعرية,وينهل منه متى شاء ,ومتى أراد, فنراه يقول :-

هزي إليك بجذع النخل مريمتي

يساقط الرطب المعسول في لغتي

وزلزلي خوف هذي لأرض اجمعه

فان امن الدنى في بطن أمنة

ورتلي آية الكرسي واشتعلي

في موكب النور كي أتلو معلقتي[6]

ويبدو جليا التناص عند شاعرنا مع الآية المباركة  ))وَ هُزِّى إِلَيْكِ بجِذْع النّخْلَةِ تُسقِط عَلَيْكِ رُطباً جَنِيّا ))[7] ,وتتنوع استلهامات شاعرنا التميمي  للقرآن الكريم ,فهو تارة يستوحي مضمون الآية,أو فكرتها الأساسية ,وتارة يستدعي بعض المفردات , والتراكيب القرآنية , وتارة أخرى يشير إلى حوادث , أو شخصيات تحدث عنها القرآن الكريم [8],وأولى توظيفات النص القرآني , ولقد نهل الشاعر التميمي من هذا المصدر, وتمثل الآيات القرآنية في قصائده, وأتى التوظيف للنصوص القرآنية على أشكال متباينة:فهو حاضر على مستوى الكلمة المفردة, وعلى مستوى الجملة ,والآية, وأحيانا أخرى يتجاوز ذلك إلى أعادة أنتاج جو القصص القرآني ضمن السياق الذي يخدم البناء الشكلي ,والدلالي التي يرمي إليها كل توظيف[9],,فنراه يقول:

وهجرة يشرب العشاق خمرتها

ويثملون بتكبير وحوقلة

وجنة عرضها وجدان طالبها

وليس يعلم إلا الله بالسمة

يا مالك الدين والدنيا مبالغة

أن قلت لولاك زلزلنا بزلزلة [10]

 

نجد التناص الديني واضحا في النص الشعري اذ تناص الشاعر التميمي مع الآية القرآنية المباركة ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [11]ويحتل القرآن الكريم مركزا مهما في نفس الشاعر ,وذلك لغنى آياته بطاقات لا تنفد, وأسلوبه الفني المعجز , وبلاغته المشرقة , فضلا عن احتوائه قيما فكرية وتشريعات سامية ,فهو دستور شريعة ومنهاج امة ,ويمثل في اللغة العربية تاج أدبها ,وقاموس لغتها ,ومظهر بلاغتها وحضارتها ,ثم فوق ذلك طاقة خلاقة من الذكر, والفكر ,يجد فيها الذاكرون, والمتفكرون لمسات سماوية تهتدي لها المشاعر وتقشعر من روعتها الجلود كلما تدبرت معانيها ,واستشعرت جلالها[12],استطاع شاعرنا,أن يجسد الآيات القرآنية المباركة في قصائده الشعرية , تناول ألفاظ دينية مباشرة مثل: (التكبير , والحوقلة ,والجنة مالك , والدين, الزلزلة) وقد اظهر شاعرنا براعة فائقة في تعامله مع النصوص الدينية التي استلهمها, أو امتصها في كثير من قصائده,فقد طبعها بطابعه الخاص ,وحملها شحنات دلالية خاصة,وهذا ما نجده في قصائده التي عمد فيها إلى اقتباس الآية القرآنية مباشرة  ,فنراه يقول:

فما محمد إلا غيمة عبرت

صيفا ومرت علينا غير ممطرة

كأنما خلق الأرواح بارىها

كيما تكون قرابينا لقنبلة

أنا العراق وأثوابي سواتركم

فلم تريدون تمزيقا لخارطتي [13]

نجد التناص واضحا مع الاية المباركة ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ))[14], وقد تتحقق الاستمرارية من جراء الحدوث التتابعي للوحدات التي تتصل ببعضها البعض واحدة تلو الأخرى فيتاح لكل جزء من الوحدات الإيقاعية فرصة التفاعل والتواصل , حيث تشتمل هذه الوحدات على التتابع الحركي وتأتي الاستمرارية عبر هذا التتابع متجلية بالحركة الخطية , أن السمة البارزة في النص هي النقد الموجه إلى أعداء العراق.

الإحالات:

[1] التناص بين النظرية والتطبيق شعر البياتي نموذجا : د. احمد طعمة حلبي :13 .

[2] المرجعيات التناصية في شعر محمود درويش :3 .

[3] ينظر موقع الشاعر أديب كمال الدين .

[4] م.ن .

[5] ينظر التناص بين النظرية والتطبيق :99 .

[6] ديوان ناعية القصب : حازم رشك التميمي : 61 .

[7] سورة مريم , الآية :25 .

[8] ينظر التناص بين النظرية والتطبيق :100 .

[9] البنيات الدلالة في شعر أمل دنقل : عبد السلام المساوي :144 .

[10] ديوان ناعية القصب :65 .

[11] سورة آل عمران/ 133.

[12] معجم الألفاظ والأعلام القرآنية :محمد إسماعيل :6 .

[13] ديوان ناعية القصب :68 .

[14] سورة آل عمران : 144 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى