تجديد الخطاب الديني

محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية

  الإسلام شريعةٌ تامة كاملة، وافية شاملة، جمع بين بنوده كل ما يحتاحه المرءُ من أمور دينيه ودنياه، وعاجِلَتِه وآجلته، وقد راعى كل احتياجاته النفسية والاجتماعية، ونظَّم كل أموره الأخلاقية وتعاملاته المالية، فوضع القوانين، وسنَّ والتشريعات، ووضَّح الحدود والعقوبات، وأقام أُسسًا يُشَيَّد على متونها المجتمع المتحضِّر، وبيَّن حقوق الإنسان فيما يكون له، وما يصير عليه، فأصبحت شريعة الإسلام بذلك منهجًا شاملًا، ونهجًا متكاملًا، يتماشى مع كل ظروف الحياة دون تقيُّدٍ بمكان ولا زمن.

 والإسلام دين متجدِّدٌ من تلقاء نفسه، مطابقٌ لواقعه في كل أصول شرعه، فلا تجد بندًا من بنوده لا يصلح في زمنٍ ما، ولا تجد تشريعًا من تشريعاته ينتهي وقته، وينقضي زمنه، وإنَّ تشريعات الإسلام تصلح في كل زمانٍ ومكانٍ، مهما تراخت الأزمنة، أو تباعدت الأمكنة، ومهما توالت العصور، ومرَّتِ الدُّهور.

 إن الدعوات التي تدعو إلى تغيير بعض بنوده، وإلغاء بعض قواعده، والاستخفاف ببعض ما نُهى عنه بدعوى الحرية، ما هي إلا دعوات خاوية، ووعود خادعة، هدفها محاربة الدين بهدِّ أركانه وإزالة معالمه، وخلخلة أُسسه وتفريغ معانيه، لا يدعو إليها إلا دعاةٌ على أبواب جهنَّم ممَّن صدَّق عليهم إبليسُ ظنَّه فاتبعوه، وغرَّهم بأمانيه فأطاعوه، لا يهدفون من دعواتهم الباطلة إلا جعلَ الإسلام دينًا لا معالم فيه، ولا أصولَ له، وتحويله إلى مجرَّدِ نصوصٍ على الأوراق، وشرائعٍ باليةٍ لا تستقرُّ في الأدهان، ومن المعروف أن أي منهج إذا ما فقد ملامحه، واختلَّت أركانه وأسسه ومعالمه، ما يلبث أن يستحيل إلى منهجٍ هلامي ليس واضحًا فيسهل هدمه، ويهون طمسه، فصاروا كالذين يأكلون في بطونهم نارًا، ولا يجنون بدعوتهم وأمانيهم إلا سعيرًا. 

 كثيرا ما يتردَّد على هذه الأيام على ألسنة أدعياء التيارات المدنية، وعدد من أرباب الإلحاد والمناهج اللادينية، مصطلح “تجديد الخطاب الديني” وقد خالف ظاهرهم باطنهم، وكشفت أفعالهم نواياهم، فاتَّخذوا من دعواتهم تلك منبرًا للنَّيْلِ من الإسلام والطعن في تراثه، والتشكيل في بنوده والتنفير من مواثيقه، ويردِّدون دائمًا عبارةً ظاهرها الحق وباطنها الباطل.

  ولا ننكر أن الأمة الإسلامية فعلاً في حاجة إلى تجديد خطابها الديني حتَّى تستقيم أمورها، وتعتدل موازينها، فتجديد الخطاب الديني ضرورةً تحتاجها الأمة في كل أحوالها وحياتها، والسبب في تلك الحاجة الماسة ليس لتطاول الزَّمن على التشريع الربَّاني، وليس لتغيير أيٍّ من مواثيقه وتشريعاته، ولكن نظرًا لأنَّنا في كل عصرٍ نستقبل من الخطوب والنوازل، ونلقى من الأحداث والنوائب، ما لم نكن على عهدٍ بها، أو معرفة بأمورها.

 ففي العصر الحديث ظهرت فتنٌ جديدة من بينها انتشار الإباحية، والدعوة إلى الحرية المطلقة على حساب القيم الدينية، وهناك طوائف طعنت في شريعة الحجاب الَّتي فُرضت على المرأة، وآخرون تجرؤوا على صحيح البخاري ومسلم وطعنوا في صحة ما به من أحاديث مروية، قصدهم من ذلك هدم السنة النبوية، ومنهم من طعن في التراث الإسلامي، واستخفَّ بذلك الإرث التاريخي، فزعموا أنَّ الإسلام لا حضارة له، ولا تراث فيه، وسلَّطوا الضوء على بعض الكوارث والمصائب، وعدد من الأحداث والنوازل، من أجل تشويه التاريخ الإسلامي عن طريق نشر أخبارهم المجتزأة التي تروِّج لأكاذيبهم، وتُفصح عن خبث أباطيلهم، بل ولجؤوا في حربهم ضد الأمة إلى الطعن في علمائها، والإساءة إلى رموزها، والنَّيْلِ من قادتها، وهدفهم من هذا هو طأطأة رأس المسلم حينما يرى انعدام حضارته، وزيف تاريخه، ويرى في المقابل ازهادر حضارة غيره، فيشعر بالنقض والدونية، وكل هذه أمثلةٌ تدل على حاجتنا الدؤوبة إلى تجديد الخطاب الديني كي نواجه  تلك الفتن، ونتصدى لمثل تلك المحن، فنبطل تلك الدعوات التي لا نجني منها غير الضعف والوهن.

 بل إن تجديد الخطاب الديني كان حاجةً ماسةً حتَّى في القرون الأولى من عمر الأمة المحمدية لمحاربة الفتن القديمة التي واجهتها، والبدع التي انتشرت بين أبنائها، مثل فتنة “خلق القرآن” التي انتشرت في القرن الثالث وذاع صيتها، وعم شرُّها، وبدعة “القدرية” التي كثر الكلام فيها، وانتشر الحديث عنها، في أواخر عهد الصحابة، وكلها أمور مبتدعة لم يتحدث بها نبي الإسلام، ولم يوردها في آياته القرآن، وهنا تكمن أهمية تجديد الخطاب الديني حتَّى نستنبط من نصوص القرآن والسنة ما يرد على هذه البدع، ويبطل تلك المنكرات والفتن، وإنَّنا أن أوردنا أمثلةً قديمة كتلك فذلك حتى نثبت أن مسألة “تجديد الخطاب الديني” لا علاقة لها بتطاول الزمن، ولا بامتداد العصور، كما زعم بعض اللادينيين الذين اختبؤوا وراء ستار “العلمانية المتطرفة”، بل إن القرآن الكريم ذاته حدث فيه تغيُّرٌ في سياق خطابه الديني قبل الهجرة وبعدها، فنجد القرآن المكي يمتاز بقِصَرِ آياته وإيجازها، وحرارة عاطفتها، واهتمامها بأمور العقيدة، بينما نرى القرآن المدني يتصف بطول آياته وتفصيلها، وهدوء عاطفتها، واهتمامها بأمور التشريع، وما هذا إلا لأن المسلمين قد جمعهم بعد الهجرة  مجتمع متكامل، ونظامٌ واحدٌ شاملٌ، فصار يناسبهم هذا النمط من الخطاب الذي هو مكمِّلٌ للخطاب الأول دون أن يكون غناءً عنه، أو بديلاً له، فالمسلم بعد أربعة عشر قرنٍ في حاجة إلى الخطابين حتى يستكمل دينه، ويستتمَّ نعمته.

 إن ما يدعو إليه بعض اللادينين من تجديد للخطاب الديني ما هو إلا محاولات خبيثة لزعزعة الدين ومحاربته، والطعن في أسسه ومبادئه، نتيجة عدم اقتناعهم بتشريعاته، وعدم رضاهم عن مناهجه، فيعترضون تحت ستار تجديد الخطاب الديني على الحدود والمواريث، ويطعنون في القرآن والأحاديث، ويريدون تبديل بعض قوانين الدين بدعوى أنها قد مضى عليها الزمن، وأكل عليها الدهر، ويزعمون أن تلك التشريعات لم تعد تتَّفق مع حاجة العصر، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويحاولون تفريغ الإسلام من معناه، وطاوعهم في هذا عبيد البغي وأنصار الجهالة، وأيدهم من أيدهم من أئمة الضلالة، وزعمهم هذا جهلٌ بُني على التبجُّحِ والكفر، فلا يجوز لمخلوق أن يزعم أن حكم الله لا يصلح في هذا الزمان، فالقرآن يصلح في كل الأزمان، وتسري شريعته على كل مكان، وقد توعَّد القرآن أولئك الذين يحرفون شريعته، ويخرجون عن نهجه وطريقته، بإخراجهم من الملَّةِ حينما قال (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) فلا يجوز إذًا تغيير شريعة الله بذريعة تجديد الخطاب الديني.

 إن تجديد الخطاب الديني ضروة تحتاجها الأمة لمواجهة تلك الفتن المستحدثة، والتصدي لمثل تلك البدع الموبقة، ولكن ليس بتغيير شرع الله كما زعم أصحاب النَّوايا المارقة، إنما تكون بالنظر في آيات القرآن، وأحاديث نبي الإسلام، ومعرفة كيف يتم استعمالها لمواجهة ما قد نلقاه من نوازل ومصائب، وما يعترضنا من فتن ونوائب، والتجديد الحقيقي للخطاب الديني يكون باتباع الدين عن طريق إحياء سننه، واتباع نهجه، والاقتداء بهديه، والتفاعل مع أصوله، وبناء رؤية دقيقة للتعامل مع أحداث العصر وفق رؤية معروفة، ونظرة إسلامية مدروسة، وليس عن طريق إلغاء قوانينه، وتبديل آياته، والطعن في تراثه وأصوله، كي نعرف من خلال القرآن والسنة كيف نواجه الفتن، وكيف نعالج الوهن، ولمثل هذا فليعمل العاملون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى