ليلة الريس فوزي

د. تامر عزت| القاهرة

ألم تشتاقوا إلى قصص الرعب في الصيدلية ؟ منذ زمن وأنا لم أقص عليكم تلك القصة التي حدثت معي يوما ما ، ربما سقطت من الذاكرة بفعل الزمن، ولكن لأن الكهرباء انقطعت منذ قليل في صيدليتي، فتذكرت تلك الليلة!

كان الطقس حارا لا يُطاق، حبات العرق تنزلق من الجبهة فوق العين لتحدث لسعة غير محببة للنفس، ليس هذا الوقت المناسب لانقطاع الكهرباء في الصيدلية، عفوا، بل في الشارع، ماذا؟ هناك من قال لي أن الكهرباء مقطوعة في البلد كلها، شاب صغير مثلي في مقتبل العمر يعمل موظفا في إحدى الصيدليات لعدد من الساعات في بلدة ريفية، لن يطيق مثل هذه التراهات، وخاصة أن لايوجد أي وسيلة تسلية في ذلك الوقت غير التلفاز أو النميمة!، اقوم من مكاني و أتحرك يمينا ويسارا، الليل بدأ يهبط على البلدة ولم يصطحب معه القمر، ولا الهلال ولا أي مرحلة عمرية من مراحل القمر، ماذا افعل؟ هل أغلق الصيدلية وأذهب إلى حال سبيلي؟ اسئلة وخواطر وخوف، بالرغم من وجود الصيدلية في منطقة سكنية إلا أن لايوجد أمان بنسبة كبيرة، استسلمت للأمر الواقع وجلست داخل صيدليتي على أمل أن تأتي الكهرباء فجأة كما اختفت فجأة، أشعلت الشمع ووضعت عدد منها في مناطق متفرقة بالصيدلية وحصلت على مشهد رومانسي، لم ينقصه سوى طاولة عليها مأدبة عشاء وفتاة حسناء تبتسم بعينيها اللوزتين وعلى شفاها ضحكات متواصلة لتبرز أسنان بيضاء جميلة و… ، تبخر الخيال بشكل مفاجيء على صوت رجل يُلقي علي السلام من الخارج، لم اتبين ملامحه على الفور، ولكن الصوت كان يحمل نبرة الود، امتد الخيال وتطاول حتى ظهر رجل طويل القامة يرتدي جلباب أبيض وعلى رأسه قبعة بيضاء وكأنه إمام مسجد، اقترب اكثر وظهرت بعض التفاصيل الأخرى، عيون غائرة، نحيف الوجه كأنه منحوت، لحية خفيفة، وفوق كل هذا ابتسامه لم تذهب عنه، اهلا وسهلا، جلس دون استئذان، ودون أن يمد يده بالسلام.
مرحبا بك. هكذا بدأت
اهلا يا دكتور.. أعتذر عن اقتحام خلوتك، الكهرباء لن تعود الليلة.
معقول!
بلى
في تلك اللحظة وددت أن اعتذر منه على وجوده واستأذنه بالرحيل إلا أنه نظر لي بشكل مباغت وقال:
حاول أن تبتعد عن هذه البلدة في اسرع وقت، ٱعلم أنك حديث العهد، ويبدو لي أنك طيب القلب، لذلك اهرب .
لا أنكر مدى الخوف الذي داهمني من كل الجهات ولكنه لم يقترب من وضع الرعب والهلع.
لماذا؟ ومن أنت؟ سألت باقتضاب
أنا الريس فوزي، معروف بين الناس إني الريس فوزي، لأنني كنت ريس على الأنفار في المقاولات، وتقاعدت منذ فترة بعيدة بسبب سوء أخلاق الناس.
لا أعلم إن كان درجة الحرارة بدأت تزداد أم أنه الخوف من داخلى؟ ، وددت لو سألته عن سر الزيارة ؟ وكيف لم أراه من قبل ؟ وأين يسكن؟ أسئلة. أسئلة. وكأنه استجواب وكيل نيابه.
كسرت الصمت الذي لاح بين الظلام وسألت: ما رأيك في كوب شاي؟
في مثل هذا الجو الحار؟ هو سأل باندهاش.
نعم. الناس يشربون المثلجات في الحرب وهذا خطأ، لترطيب الجسم لابد من خروج الحرارة منه عن طريق المشروبات الساخنة

كانت معلومة سمعتها من أحد الأصدقاء يوما أثناء لعب البلياردو وها قد جاء وقت اعلانها في تلك الليلة الغريبة.

شكرا، لا أشرب أي منبهات بعد الرابعة عصرًا، كما أنني فقط جئت النصيحة.
قام من فوق كرسيه ومع ظلال نار الشموع بدا وكأنه يتضخم أمامي، لم أفهم شيئا، غير أنه غادر في هدوء.

وماذا بعد؟ مكثت لدقائق معدودة استوعب ماذا حدث من هذا اللاشيء الذي ظهر واختفى، ذهبت خارج الصيدلية لأرى أي كائن بشري يسير في الطرقات، لم أجد، يبدو أنه وقت الجن والعفاريت.
أخذت القرار بالغلق وليذهب الجميع إلى الجحيم، وعند عودتي وجدت أسراب من الصراصير قد خرجت من مكان ما، يا إلهي، ما هذا العدد المريع من هذه الحشرات المقززة!؟
بغضب شديد كنت اسحقهم واحد تلو الآخر، ما هذا العدد؟ من أين خرجوا؟ هل يوجد فتحة بالوعة تحت هذه الأرفف؟
ذهبت إلى المستودع واحضرت المبيد الحشري واطلقت عليهم الرذاذ على أمل أن يعودوا أدراجهم.
الليلة لابد وأنها ظلماء، شخص أتى وذهب دون سابق إنذار، وهاهي تكتمل بالحشرات الزاحفة. ماهذا؟ قطع في حذائي أيضا! يالها من ليله!
اطفأت الشموع وأغلقت الصيدلية وذهبت إلى موقف المواصلات.. تبا لهذه الليلة.

اليوم التالي
نسيت أمر حذائي تماما، ولم أتذكر إلا بعد أن خرجت من الميكروباص، انتعشت الذاكرة وتذكرت أن هناك محل لتصليح الأحذية في شارع مجاور لشارع الصيدلية، جيد، لن أتأخر، ذهبت إلى ذلك المحل الصغير، مساحته لا تتعدى ثلاثة أمتار في ثلاثة مثلهم، جلست وخلعت حذائي لإعطائها للرجل ، وكانت المفاجأة، وجدت صورة الريس فوزي مُعلقة في صدر المحل، نفس الهيئة، الجلباب الأبيض، القبعة البيضاء، وكأنه دخل إلى الصورة وليس العكس، سألت الجالس بجانبي: أين الريس فوزي الآن؟
وكأن الجالس بجانبي قد لدغه عقرب أو ثعبان، إذ وجدت ملامحه قد تجمدت وعينيه قد اتسعت ونظر إلي مليا كي يفضحني بدقة، ما هذا البلد العجيب؟ أنا سألت سؤالا عاديا، لماذا هذا الرد الفعل الغير مناسب على الإطلاق؟
فك لجام لسانه وسأل: كيف علمت بهذا الاسم؟
أجبت بتردد: منه هو شخصيا .
لم يصدق هذا الشخص الذي لا اعرفه وقام من مكانه وجلس بجواري وقال:
اسمع يا هذا، من بالصورة هو الاسطى سعيد، صاحب هذه الورشة، إذا كنت من المباحث أخبرني؟
لم تلك الثورة الغاضبة التي حدثت، وسارعت بالإفصاح عن هويتي وعملي وقصصت عليه ما حدث امس وقت انقطاع الكهرباء بالبلدة.
هدأ تماما عندما أخبرته بٱخر مشهد وهو رفضه كوب الشاي الساخن وكأن هذا مفتاح السر المدفون في أعماق الجحيم ، عندها قال ما أذهلني:
الاسطى سعيد كان يلقب عند البعض بالريس فوزي، وذلك لأنه كان يتاجر بالمخدرات قديما، ولأنه أفسد الكثير من شباب البلدة، وبسبب أحدهم الذي وشى به، وقع في قبضة الحكومة، ولبث في السجن عدد سنين، وعندما خرج فتحنا هذه الورشة وأراد أن يعمل بالحلال، بالمناسبة هو شقيق والدي، ولكنني تربيت على يديه، وتعلمت المهنة من عامل كان يعمل هنا ثم شربت الصنعة كما يقولون ، ولكن أهل الشر لم يلبثوا إلا و أحاطوا به، وكان الكمين، لعبت المخدرات برأسه مرة أخرى بناء على طلب العالم الآخر، حتى تم استدراجه مرة أخرى…
توقف عن الحديث وصمت للحظات وكأنه يتذكر ثم أردف قائلا:
في البيت الذي يقع أسفله الصيدلية، كان قد اختبأ من كمين الشرطة، كان مهجورا، أطلقوا عليه الرصاص، والمفاجأة، أن لم تظهر له جثة، بحثوا في كل ركن وكل مكان، ومرت السنين والناس نسيت الواقع و نسجوا من خيالهم قصصا لم نعلم من أين أتوا بها.

وقعت كلماته وطبقت فوق صدري وتذكرت فقط الآن آخر مشهد الريس فوزي قبل ذهابه إذ قال لي:
الناس هنا يحبون الكذب واختلاق القصص وتزييف الحقائق.. لذلك أنصحك أن تذهب من هنا، الشر باق، ودورة حياة الشر باقية. وإذا ساور الشك قلبك، فعقلك على طريق اليقين.
تمت –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى