لأنها الحياة

حليمة عبد الرحمن

بلدٌ تنهشُك و تسلبُ منك آخرَ حفنةِ أملٍ كانت بين يديك
و تدميكَ صباحَ مساء…
خرجتُ مجرجراً سنواتِ عمري الثّقال
حاملاً على كتفيّ يأسي، و سنيّ ضياعي
خرجت من قوقعة جدراني الأربعة المهترئة
و سقف غرفتي المنخفض…
هرعتُ هارباً من دموعٍ لطالما رعيتُها و خبّأتها كي لا تنهمل
خرجت هارباً من نفسي و باحثاً عنها
باحثاً عن بقايا هويةٍ ضائعة
كسرةِ أمل
وجهٍ دافئ
في زوايا مدينةٍ خاويةٍ على عروشها
سرقوا أفراحها منذ زمن
و أتخموا شوارعها بالألم و شعاراتٍ رنانةٍ كاذبة لا تمتّ للحقيقة بصلة
مشيت…
مشيت مخفياً دموعاً خجلة تكسرت كقطع جليد
و زحفت على وجنتيّ رغماً عنها..
المدينة..ترتدي أسمالها الملونة المزركشة بالضجيج
وليتها تخلعه و تنظر إلى نفسها و حقيقتها
هذه المدينة..
مدينة الدورات الجديدة والتعليم البائس
كما أقول دائماً…
مدينة الضجة المفرطة والفقر الصامت
مدينة الأضواء والبرد القارس
مدينة المطاعم و المحلات الجديدة و اليأس والألم الذي يسكن أزقتها وشوارعها…
مدينة الأمل الظاهر و اليأس المختبئ في مداخل البنايات
و خلف الحاويات..
وبين البيوت..
مدينة المتناقضات و الأحلام المعلقة
تعبت…
كنت أمشي وحيداً على غير هدى
لم تكن لديّ وجهة…
ومن لا يملك وجهة…لا يصل
تارةً أشابك يدي خلف ظهري
و تارةً أخرة أخبؤهما في جيبيّ
أنا..مثلهم
مثل كلّ هؤلاء الآلاف من الناس حولي
مثل كلّ هذه الوجوه الشّاحبة
أبتسم…استرضاءً للحياة
لكني حقيقةً لا أبتسم
أنا مثلهم…أريد أن أبكي كلّ يوم لكنني أعجز
فتداهمني الدموع في اللحظة التي لم أحسب لها حساباً…
أنا مثلهم…يسكنني أملٌ و حلمٌ بغدٍ
أعلم أننا عاجزون عن الوصول إليه
لكنّه الأمل..
أنا مثلهم…خائفٌ من غدٍ أخشى الوصول إليه
خائفٌ من مصيرٍ لا أعرفه
خائفٌ من أقدارٍ مجهولة
خائفٌ من ازمةٍ أخرى..و معركةٍ أخرى
خائفٌ منّا..
من مجتمعٍ غريبٍ جاهل
تحكمه المتناقضات و الأفكار الزائفة
خائفٌ من موتٍ قد يداهم بيتي وليته بيتي في أي لحظة
خائفٌ من الفقد..و الفقد موجع..
خائفٌ من نفسي و أفكاري و من كلّ شيء…
أنا مثلهم..طيب القلب..
حزنٌ صغير..يفجر كل أحزاني السابقة
وأملٌ وليد..يحيي آمالي اللاحقة
أنا مثلهم…لكنني صامت، وحيد و ضائع و غريب..
غريبٌ في مكانٍ ليس مكاني و زمنٍ ليس بزماني
أنا مثلهم…لكنني لست مثلهم
آلمتني قدماي…
لقد سرت في شوارع كثيرة..
أعرفها ولا أعرفها…تائهاً تسوقني قدماي
وقفت أمام بوابة مشفى
أرهقني مظهر المرضى والمنهكين
هربت..
جلست على مقعدٍ على الرصيف
وضعت رأسي بين يديّ…
فجأةً أمسكني طفلٌ من طرف سترتي
قال لي: عمو عطيني ليرة
مددت يدي إلى جيبي، أعطيته ليرتين
ثمّ بكيت…بكيتُ طويلاً
بعدها وقفت..
لملمت دموعي و أحلامي…
و رحتُ أعدّ خطواتي نحو جدارني الأربعة
نحو ملجئي و ملاذي الوحيد
لأنها بدأت تمطر…
لأنها الحياة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى