كريم يونس: أربعة عقود في السجن من دون أن يحرّره أحد
عبد الناصر فروانة| فلسطين
لم يكن أكثر الفلسطينيين تشاؤماً يتخيل خلال العقدين وحتى الثلاثة عقود الأولى من النضال الفلسطيني، أن يمضي أحدهم في السجون الإسرائيلية أربعة عقود متتالية من الزمن. كان هذا يبدو ضرباً من الخيال.
لم يكن الشاب الفلسطيني “كريم يونس” يتوقع أن يمتد اعتقاله، الذي بدأ في السادس من كانون الثاني/يناير 1983، أن ينتهي في الخامس من كانون الثاني/يناير 2023، ليخرج من السجن من دون أن يُحرّره أحد، فكريم لم يتحرر ضمن صفقة تبادُل قادها فصيل مقاوم، أو جرّاء ضغط مفاوض عبر مفاوضات سياسية، وإنما يخرج من السجن بعد أن أمضى مدة محكوميته البالغة أربعين عاماً، بالتمام والكمال، وبلغة الأسرى، أمضاها كاملة “من الجلدة إلى الجلدة”. وهو بذلك الفلسطيني الذي أمضى أكبر فترة من حياته في سجون الاحتلال بشكل متواصل.
فهو أول أسير يمضي أربعة عقود من الزمن، وهو الرقم الأعلى من بين أرقام كثيرة سبقته، لكنه قد لا يكون الأخير الذي يمضي هذه المدة الزمنية الطويلة، ففي ظل انسداد الأفق السياسي وتراجُع دور المقاومة في إنجاز صفقات تبادُل الأسرى، قد يصبح الأربعون رقماً متكرراً بين أرقام تتجاوزه بكثير من السنوات، وقد يليه الكثيرون في قادم الأيام والسنين. وأخشى أن تنحصر مهمتنا في رصد أعدادهم، وتعداد الأعوام التي يمضونها، من دون السعي لانتزاع حريتهم وكسر قيدهم.
بينما لم يكن والده “يوسف” يتوقع هو الآخر، ولا حتى في أسوأ الكوابيس، هذا السيناريو المؤلم، إلى أن توفاه الله في السادس من كانون الثاني/يناير 2013، تزامناً مع الذكرى الثلاثين لاعتقاله، في إثر مرض أقعده طويلاً، حال دون تمكُّنه من مواصلة زيارة نجله لأعوام طوال قبل وفاته. كما لم تكن تعلم الحاجة “صبحية”، وهي حامل بجنينها البكر، بأنها ستُنجب طفلاً، فيصبح شاباً، وقبل أن تفرح بزواجه، تأتي قوات الاحتلال وتعتقله من داخل جامعته وتغيّبه وراء الشمس، فيغدو كهلاً، بل هرماً، ورجلاً عجوزاً، إلى أن جاءها الموت هي الأُخرى في الخامس من أيار/ مايو الماضي، وقبل سبعة أشهر فقط من الإفراج عن نجلها “كريم”، وذلك بعد أن أنهكها الانتظار، وقبل أن تكحّل عينيها برؤيته بلا قضبان، وقبل أن يحتضنها هو الآخر بعيداً عن أعين السجّان، وتحت سماء غير مسيجة. وفي كلتي حالتيْ الوفاة، لم تسمح السلطات الإسرائيلية للأسير كريم بحضور جنازة كلٍّ منهما، أو إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليهما، أو زيارة قبر أيٍّ منهما، على الرغم من أنه يحمل الجنسية الإسرائيلية ويقيم بحدود الدولة العبرية. ومع ذلك، وعلى الرغم مما تعرّض له “كريم” طوال سني سجنه، ظل قوياً وثابتاً، وبقي منتصب القامة، شامخاً ومبدئياً، لم ينهَر، أو يضعف ويستسلم.
لقد عرفت السجون منذ بداياتها وحين كان أبي ـــــــ رحمة الله عليه ــــــ أسيراً بين جدرانها، وترددت على بواباتها وجلست على مقاعد الزيارة فيها منذ صغري، لكنني لم أكن أعي معنى السجن. كنت أظن أن السجن مرادف للبطولة، ولا سيما أن الاعتقال ارتبط بنضال الشعب الفلسطيني ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وبمرور الوقت، أدركت أن للسجن معنى آخر. فالسجن مرادف للألم والوجع والقهر. فالسجن ليس بطولة فحسب، والأسرى ليسوا مجرد أبطال ناضلوا وضحوا وصمدوا فقط، وإنما هم بَشرٌ كبقية البشر، هم حياة ومشاعر وأحاسيس وأعمار تمضي خلف القضبان، ولكل أسير قصة وحكاية، و”كريم يونس” يوجز لنا الرواية.
كريم يونس..اسمٌ لثائر فلسطيني حُفر عميقاً في سِفر النضال الوطني الفلسطيني وتاريخ الحركة الوطنية الأسيرة، وبات يعرفه الجميع ويحفظه الأسرى والمحررون، ويذكره الناشطون والمتابعون لقضايا الأسرى والمعتقلين، ويردده الشرفاء والمخلصون، وهو من مواليد 24 كانون الأول/ديسمبر 1958، من قرية عارة الواقعة في المثلث الشمالي ضمن المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948، وقد جرى اعتقاله بينما كان يحضر إحدى المحاضرات التعليمية في جامعة “بن غوريون” في بئر السبع، حيث كان يدرس فيها في قسم الهندسة الميكانيكية، وقد حُكم عليه بالإعدام شنقاً، وألبسوه “بدلة الإعدام الحمراء” طوال أشهر عدة، بانتظار مَن يقوده إلى المقصلة، بعد اتهامه ورفيقيه سامي وماهر يونس بالانتماء إلى حركة “فتح”، وحيازة أسلحة، وقتل جندي إسرائيلي، كان قد خطط ورفاقه للاحتفاظ به ومبادلته بأسرى فلسطينيين وعرب محتجزين لدى الاحتلال، إلى أن تم استبدال قرار الحكم بالسجن المؤبد، وبعد مرور أعوام طويلة على اعتقاله، تم تحديد “المؤبد” بالسجن أربعين عاماً.
وقد رفضت دولة الاحتلال الإفراج عن “كريم” ضمن صفقات تبادُل الأسرى التي تمت مع فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية، كما رفضت أيّ حديث يتطرق إلى الإفراج عنه من طرف المفاوض الفلسطيني في سياق المفاوضات السياسية التي أعقبت توقيع إعلان المبادئ في “أوسلو”، بدعوى أنه مواطن “إسرائيلي”، وأبقته تحت رحمة القوانين والمقاييس الإسرائيلية الظالمة، يبحث عن حريته منذ أن اعتقلوه سنة 1983، ومنذ أن أعادوه من صفقة سنة 1985، مروراً بإعلان المبادئ في “أوسلو” سنة 1993 وصفقة شاليط سنة 2011، وصولاً إلى الإفراجات السياسية سنة 2013، ولم يجد طوال تلك الأعوام مَن يعيد إليه حريته المسلوبة. الأمر الذي أدى إلى تجاوُزه من كافة قوائم الإفراج بكل أشكالها ومسمياتها. فلا المفاوضات نجحت في إدراجه ضمن قوائم المفرَج عنهم، ولا المقاومة استطاعت أن تفرض شروطها وتكسر قيده، ضمن صفقات تبادُل الأسرى المختلفة. لكن شاءت الأقدار أن يخرج “كريم” بعد أن أمضى مدة محكوميته كاملة، تاركاً خلفه آلاف الأسرى الفلسطينيين، بينهم مرضى ومصابون وجرحى، وألوفاً أُخرى من السجانين والجلادين والحراس المدججين بالسلاح الذين لا يجيدون سوى القمع والتنكيل وحفلات الضرب والإذلال بحق المعتقلين.
كريم يونس، هو ذاك الرجل الذي يعتز بفلسطينيته وغير قابل للمساومة أو الابتزاز، وهو الإنسان الفلسطيني الذي ناضل وضحى من أجل حرية شعبه وخلاصه من براثن الاحتلال الإسرائيلي. هو الأسير القائد الوحدوي والمُلهم والمثقف والكاتب والشاعر. وهو الذي مرّت عليه حروب عديدة واتفاقيات كثيرة ومشاهد لا تُعد ولا تُحصى. وهو الأسير الذي استقبل وودع الآلاف المؤلفة من الأسرى والمعتقلين، وكان شاهداً على ارتقاء العديد من زملائه شهداء خلف القضبان، وعلى آخرين غادروا إلى المجهول، ولا يزال يسمع صيحات الألم من آلاف آخرين. فكريم وغيره من أسرى الداخل، هم جزء أصيل من شعبنا الفلسطيني، وقد حُفرت أسماؤهم عميقاً في سِجل النضال الوطني الفلسطيني، وفي سِجل الحركة الوطنية الأسيرة. كما حيفا ويافا وعكا واللد والناصرة وغيرها من المدن المحتلة سنة 1948، هي امتداد طبيعي لفلسطين التاريخية كما طُبعت في أذهاننا وحُفرت في عقولنا وقلوبنا.
إن ملف الأسرى القدامى وذوي الأحكام العالية يجب أن يبقى مفتوحاً باستمرار. وعلى كافة الأطراف الفلسطينية العمل في جميع الاتجاهات وعبر كافة الوسائل الممكنة لضمان الإفراج عن الأسرى. فأرقام الأسرى القدامى باتت صادمة، واستمرار بقائهم طوال هذه الأعوام داخل السجن لم يعد مقبولاً.
وما زلنا جميعنا ننتظر على أحرّ من الجمر مرور الأيام القليلة المتبقية وقدوم يوم السادس من كانون الثاني/يناير من العام القادم، ذاك اليوم الذي ستفتح فيه السجون أبوابها ليخرج “كريم” ويعانق الحرية. لن يكون ذاك اليوم يوماً عادياً بالنسبة إلينا جميعاً، وإلى شخص كان دوماً إنساناً ورجلاً ومناضلاً وقائداً استثنائياً.
سيخرج “كريم” من بوابة السجن، يبحث عن أمه بين المستقبِلين؛ فلن يجدها ولن يجد أبيه أيضاً؛ فكلاهما رحل عن دنيانا، ولا يمكن لنا أن نتصور كيف سيرى “كريم” الحياة من بعد غياب امتد أربعين عاماً خلف الشمس!