مناجاة متأخرة.. إلى السياب الحاضر بيننا حتما
في الذكرى الثامنة والخمسين لوفاة الشاعر بدر شاكر السياب
شعر: منذر عبد الحر| شاعر وإعلامي عراقي
أُلقيت في جلسة افتتاح مهرجان يوم السياب، صباح يوم ٢٤ كانون الأول ٢٠٢٢، الذي أقامه منتدى السياب الأدبي بدعم وإسناد الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق مع اتحاد أدباء البصرة، في الذكرى الثامنة والخمسين لوفاة الشاعر بدر شاكر السياب.
في مواسم الطلع
أرى روحك موزعة على الفواخت
وهي تتنقل بين لثغات النخل
تبث فيها لهفة الرحيل
إلى موانيء الحلم
انت ماثل بكامل بوحك
ثمة فتاة تراقب هيامك
وأنت تقطع الطريق
من أنينك إلى صبرك.
عابرا همس الطين
وخفقات أجنحة البلابل
اللائي يرددن غناءك
لم يكن جيكور
إلا عتبك النحيل على البحار
تلك التي فصلتك عن ربوع بكائك
وجعلتك ترنو إلى السفن التائهة
متعلقاً بفنار الفزع
وأنت تلوك لوعة
وسؤالاً عن عودة حائرة
يا من رسم على جحود الخليج
خيبة وغربة مداها سرير يطفو
على صبر فادح
***
لم تكن تعلم…
أن النساء اللواتي تمنيتَ رقاد قصائدك
على صدورهن
علقن صور أحزانك
على جذوع الندم
وهن يفتحن شباك “وفيقة”
على حقل جوع رفيف أحلامهن
أنت الواقف الآن على ترف ذكرى
جلس تحت صهيل آلامك عشاق
وشعراء وملوك شعروا بضآلة قاماتهم
فألقِ عليهم قصيدتك الأخيرة
تلك التي أخفيتها في تقرير الطبيب
الذي أغلق عينيك
كي لا تفضحا غربان الموت التي رافقتك
أعلم… أنك حين تداعب نسائم الليل شعرك
تتلفت… خشية أن يراك الحراس
تنزل بهدوء إلى الشط
تغسل آثام من رقدوا تحت هديلك
وتمسح غبار النسيان عن وجهك
لتعود أكثر ثباتا…
تشدو للعراق حرقة اشتياقك
وتضفر جدائل النهارات
بشمس غربتك الوقحة
جوادك الأدهم…
حين مضيت به إلى بريق المدن
هزل في منتصف الطريق
فألقيت به إلى وادي يأسك
ومشيت وحيدا
كأنك تحمل تاريخًا من التيه والعبرات
حتى وصلت إلى شاطيء مهجور
كان بانتظارك شيخ صامت
أشار إلى فنار بعيد
وانشغل عنك بخمرته المهربة
من القرى النائمة على هلع الفقر
الريح تصرخ عليك..
يا غريب…
أفصح عن غايات رحلتك
وأنت تحمل قرية سجينة
ونجوما مشنوقة
ومساءات معلقة على دوالي النشيج
رمم خطواتك
بالندى المسفوح على العشب الذابل
وهو يتذكر كركرات الأطفال
على موسم إصغائه للفراشات
تلك التي أطلّت على مطرك الحزين
وأخذت من السوق القديم
مرايا
وتمتمات
وأمنية برد أنينها
لم يعد حفار القبور الذي
كبله الغروب بالصمت
واقفًا على تلة الانتظار
ولم تشأ المومس العمياء
أن تتخفى أو تلوك خوفها
هي الآن على برج
من بثور أكاذيب ووصايا ذابلة
لم يبقَ من جزعك
غير ركام جدران
أعيد طلاؤها بالفضائح
كي تخفي الأكف المعلقة
على أبواب المدينة التي
أدارت ظهرها لك
ووشمتك بالغربة
لتطلق خطاك بعيداً
وأنت ترى في كل وجه خيبة
وفي كل طريق متاهة
***
الأنثى التي أغوتك بالرفيف
الرقيقة حد الهمس
المحلقة في احتشاد رأسك بالجوع
التي ترى خطواتها رقصاتٍ
وكلماتها ينابيع
و عينيها مدينتين من بحر وغيوم
الأنثى التي ترنمت بسحرها سرا
جابت الأرض كلها بحثا عن ظلٍ لك
فلم تعثر إلا على فتات أغنية وبقايا شراع
وأمنيات مجففة على نهر منسيٍّ
فنسجت من دموعها نداء
و حفرت بئر ذكريات
لتجد فيه جفاف ندم
وصندوق وصايا
تركها صياد على جثة صبره
ومضى بعيداً
وهو يرى كلابه هاربة
إلى تلال بعيدة.