الجلسات النسائية من القَبُولات إلى الجروبات

هدى عبد الحر | العراق – النجف الشريف

في الرابع الابتدائي تحديدا، وفي صباح صيفي رائق، انتبهت لكلمة غريبة قالتها والدتي وهي تحاور صديقة لها: (القَبُولي (وأضافت بلكنة يشوبها الفرح.. مساء اليوم لدينا (قَبُول) عند الصديقة سؤدد الشماع، وقد رأيتها طوال ذلك النهار منشغلة بالاستعداد والتحضير إذ أخرجت أجمل ما عندها من ملابس وجرّبت أكثر من ثوب وحاولت أن تجد الحقيبة التي تناسبه. واهتمت كثيرا باكسسوارات الشعر ونوع العطر والمكياج وكأنها تسعد لعيد كبير لا أعرفه..!! وقد أخذت أرسم في خيالي الطفولي المحلّق جمال وحلاوة هذه الجلسة فطلبت بإلحاح وتوسل أن تأخذني معها لكنها رفضت بشكل قاطع على غير عادتها معي إذ كنت طفلتها الصغيرة المدللة. لكن هذه الرفض جعلني أشدّ فضولا لمعرفة معنى كلمة (القَبُول) أولا… ومعرفة سبب رفضها لذهابي معها ثانيا. وكان مصدري الأول والوحيد هو أمي بالطبع فسألتها، وكانت إجابة الشقّ الثاني تسبق الأول إذ قالت): أتكيت القَبُول لا يسمح باصطحاب الصغار)، وأما معنى القَبُول فهو اسم من أسماء الملتقيات التي تجمع نخبة من السيدات الفاضلات نساء العوائل ذات المستوى الاجتماعي الرفيع، وأخذت تعدّد لي أسماء نساء أعرف بعضهنّ فمنهنّ من زارتنا في البيت أو التقينا فيها في مناسبة ما… وكلهنّ سيدات من الطبقة المخملية وقد حدثتني كذلك عن أصل هذه (القَبُولات) وتأريخها الذي يعود العقود الأولى من القرن العشرين حيث تجتمع الصديقات والأخوات والقريبات في بيت يحدّد مسبقا وبشكل دوري منتظم. بقيت هذه المفردة بذاكرتي تدور لسنوات طويلة لم يوقف دورانها تعاقب السنوات والأحداث، وذات يوم أخذني الفضول لأن أتصفح كتابا حديثا أقتناه والدي، بدا لي من عنوانه وغلافه الأنيق والجميل أنه يبتعد عن اهتمامه الأول والوحيد: (كتب القانون.( واستغرقت في قراءة ذلك الكتاب السميك (هكذا مرّت الأيام) للكاتبة العراقية بلقيس شرارة زوجة المعماري العراقي الشهير رفعة الجادرجي.. وكم دُهشت عندما وجدتها تتحدث عن (القَبُولات) وتذكر بعض تفاصيلها التي عاصرتها في بغداد في عقد الخمسينات وعن ما يجري فيها إذ كانت أشبه بالنوادي الاجتماعية التي تتيح التعارف وربما تجري فيها مشاريع (خطوبة) حيث تخطر الآنسات الجميلات الأنيقات وهن يقمن بواجب الضيافة يقدمن الطعام والشراب بمختلف ألوانه من العصائر والقهوة والشاي والحلويات والمعجنات التي أعدتها صاحبة المنزل لضيوفها. وفي القبولات يجب أن يكون كل شيء أنيقا منظما بدءا من ترتيب المائدة وتنسيقها بطريقة جذابة ولطيفة مرورا بالأحاديث والموضوعات التي تناقش فلم تكن الجلسات خالية من الصوت الثقافي فضلا عن أحاديث النساء المألوفة التي تتعلق بالأزياء وغيرها…. فهي تظهر شخصية المرأة ومدى حرصها على التأنق والابتكار. ولأن الحياة في تطور دائم ومستمر، فقد كان لا بدّ أن تتبدل الأحوال وتتغير البنية الاجتماعية فتختفي ظواهر وتظهر أخرى جديدة. وكان (القبول) أحد هذه الظواهر التي انحسرت كثيرا بل يمكن أن أجزم أنها انتهت تماما بعد تطور التكنلوجيا ودخولها الكبير إلى مفاصل الحياة إذ كان تأثيرات السوشل ميديا جارفا وعميقا في خلق نوع جديد من العلاقات الاجتماعية القائمة على التواصل الدائم لكن من خلال التكنلوجيا. فظهرت (الكروبات) النسائية وانتشرت بسرعة البرق وأخذت تجمع الأخوات والصديقات والزميلات في المدارس والجامعات ومن خلال هذه المجموعات الإلكترونية وعبر الأثير تجري الاحاديث والمناقشات الطويلة وطرح المواضيع الفكرية والاجتماعية والعلمية وحتى الدراسية وتتبادل الأخبار ووصفات الطعام وطرق الطهي وكل التفاصيل مثل افتتاح بوتيك للأزياء أو مدينة ترفيهية أو ناد رياضي أو مقهى ثقافي، صارت كروبات الفيس بوك والتلكرام والفايبر والواتساب.. هي قبولات القرن الحادي والعشرين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى