هل الإنسانية سائرة إلى الغرق في العدمية؟

د. زهير الخويلدي | كاتب فلسفي – تونس

” العدمية هي عجز المعنى عن إعادة تشكيل عالم إنساني”

لم تكد تخفت الأصوات المتحدثة بلغة النهايات والملوحة بالإنسان الأخير ونهاية التاريخ وأفول الغرب وخسوف العقل وتصدع الذات وشقاء الوعي وتيه الوجود وكذب الدولة وموت المؤلف وضياع القارئ حتى ظهرت أصوات جديدة تحذر من الكارثة وتنذر من السقوط في المنحدر الخطر وتلوح بعلامات بلوغ الانسانية مرحلة الغرق في العدمية وتبرر ذلك بتنامي الهويات القاتلة والأزمات الصحية المتناسلة واندلاع الحروب الجرثومية وهشاشة الوضع البشري والدوران في حلقات مفرغة وإعادة انتاج السائد وانحباس الابتكار استحالة الاقامة في العالم من خلال التشبث بالمعايير القديمة وتأخر تشكل معالم الحياة المعاصرة.

فما هي الأمارات الدالة على الوقوع في العدمية؟ وكيف يمكن التعاطي معها؟ وما البديل الممكن عنها؟

العلامة الأولى هي ضبابية الحقيقة والاختلاف حول الطريق المؤدي اليها وترهل المناهج القديمة.

العلامة الثانية هي عبثية الوجود والشعور بان الحياة المشتركة لم تعد جديرة بأن تعاش وتآكل المعنى.

العلامة الثالثة هي الحيرة الأكسيولوجية وتفكيك المعايير وتحطيم المبادئ وتصحر البعد القيمي للذات.

ربما تكون الأزمة متأتية من الانطواء على الخصوصية المنطوية على ذاتها واعتداء العولمة المتوحشة على الكونية الإنسانية وربما المخاطر المحدقة بالحياة الإنسانية من جميع الجوانب وضعف المواجهة والوقاية والمناعة هي سبب دفع الناس إلى الهروب إلى الأمام والخوف من المستقبل والاختلاء بالنفس، ولكن الواقعة الكبرى التي أفاضت الكأس وجعلت البشرية مقتنعة بالهلاك الحتمي والمصير المشؤوم هي جائحة كورونا وحالة الهلع الجماعي وصعوبة التأقلم مع الوباء وحالة الشلل التام في ظل الحجر الشامل.

العدمية هي حدوث الصد من طرف المجتمع للأفراد والتعرض لنهشة الواقع وعدم استجابة المؤسسات لرغبات الفئات الشابة والعجز عن تحقيق الأماني والتناغم مع الانتظارات ويترتب عن ذلك تبنى موقف مناهض لكل من الأحياء وقولهم لا مواجهة العالم وتفضيلهم العيش في أمكنة العدم على واحات الوجود.

لقد وجد الإنسان المعاصر نفسه ضمن إطار ثقافي بصدد الإطاحة بالشحنة الرمزية للموروث وتبخيس الأسس الميتافيزيقية واللاهوتية التي يستند اليها وصعوبة الانتقال إلى عالم جديد شكله العلم الحديث من خلال التقنيات والتصنيع والثورة الرقمية وتعثر مسار العلمنة فيه نتيجة السير ببطء نحو مجتمع بلا روح.

من هذا المنطلق تؤشر العدمية السلبية على بلوغ البشرية لحظة السقوط والتقهقر في قدرة الروح ويتجلى ذلك في علامة الضعف في القيم ونفاذ المخزون الروحي للذات الجماعية وفقدانها لمرجعياتها ورموزها وتضطر إلى الالتجاء إلى الانطواء والعزلة وممارسة العنف والحرب ورفض كل أشكال السلم والتفاهم.

بهذا المعنى لا تقتصر العدمية على سقوط القيم العليا وصعود الابتذال والتافهين والفارغين من كل قيمة وإنما تعذر وجود تفسير لحالة التراجع الرهيب التي أصبح يعاني منها  الانسان في مستوى علاقته بنفسه والاضطراب والفوضى التي صارت تسم العلاقة بين الذوات والمجموعات وبين البشر والمحيط الطبيعي.

قد ينتشر مرض العدمية السلبية في المناطق التي تتحكم فيها أحكام الدين والأخلاق والسياسة والجماليات والمنطق وقد تظهر مخاطر جمة من هذا الانتشار تمس الحياة وتهدد المصير وتطال الجوانب الحميمة فيها ويحدث خلل في جدلية القيم والغايات ويشل قدرة الثقافة على التصدى للقوى المتوحشة الفالتة من عقالها مما يعسر عملية العلاج منه ويؤبد حالة الضياع والفراغ ويؤجل كل عملية ابداعية في الاقلاع والمبادرة.

لقد وجد البعض ضالته في الهروب إلى الدين والتصوف والميتافيزيقا والاستنجاد بالغيب وحاول البعض الآخر تلطيف الأجواء وفتح الآفاق المغلقة باستدعاء الفن والجماليات والمطالعة وتنشيط ملكة الخيال ولقد عبر فريدريك نيتشه عن ذلك بقوله:” لنا الفن لكي لا تميتنا الحقيقة” ولقد صرح هنري برجسن في ذات الموضوع ما يلي: “وَهْمٌ يُنعش خيرٌ من حقيقة تقتل”، ولكن الدرس الحقيقي الذي يجدر تعلمه هو حسن طرح السؤال حول الطارئ والمستجد والمباغت والمداهم والعسير والوضعية القصوى وحصار الزمن والموضع ونهشة الواقع ومعاودة التفكير في المصير الإنساني وإبداع مفاهيم قادرة على طرح مشاكلنا الفعلية على الأرضية التي يتحرك فوقها الفانون بحثا عن البقاء وفق روحانية معلمنة وحكمة العيش سويا .

غير أن التحدي الكبير الذي يجعل من العدمية كارثة حقيقية حلت بالإنسانية هي القطيعة مع المجتمع وتلاشي المعنى وقوة المعتقد وانحسار التفكير وتنامي مشاعر العبث والإحساس باللاانتماء والانبتات والتعويل على مجابهة العدمية بالمزيد من العدمية وغض الطرف عن الكارثة الداخلية في العالم المعدم. 

غني عن البيان أن تجاوز العدمية يقتضي التسلح بأدوات مضادة للتشاؤم واليأس وبأسلحة مليئة بالفرح والحياة ونابضة بالمعنى وتبشر بالولادة والابتداء وتحمل مشروع وجود وثراء في القيمة وتنشط الرأسمال الرمزي للمجتمع وتجعل من النسيان ذاكرة علاجية ومن الذاكرة نسيانا سعيدا ومن الاعتقاد أملا في العتق.

 يمكن الاختتام بما قاله الشاعر الطغرائي عن التعلق بالأمل وحسن استثمار الحياة بقوله ” أُعَلِّلُ النفسَ بالآمال أرقٌبُها*** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”.

فهل يمكن للصحة والعافية والسلامة من كل خطر هي الفضائل الحيوية التي تدفع عنا بلاء العدمية؟ وأي إيجابية إثباتية في العدمية كما رأى ذلك نيتشه؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى