عبدالوهاب مطاوع وفراسة المؤمن

صبري الموجي/ رئيس التحرير التنفيذي لجريدة عالم الثقافة

 على رِجلين مُرتجفتين لا تقويان على حملى التقيتُه أول مرة، حينما استدعانى لمساءلتى عن خطأ بدر منى فى بداية عملى بالأهرام، تكونُ مُكابرة إن قلتُ إنه كان غيرَ مقصود، تَرَتب عليه أن طُبع مُلحق الجمعة مُشتملا علي ذلك الخطأ، مما أثار غضبة القراء؛ خاصة أنه وقع فى أهم الصحف ليس فى مصر بل فى الشرق الأوسط دون أن تتنبه له عينُ أحدٍ فيتم تدارُكه.

فيممتُ وجهى شطرَ الراهب فى صومعته، أُقدِم رِجلا وأؤخر أخرى، حتى وصلت إلي حُجرة مكتبه، فحدثتني نفسي أن أنكص راجعا، وساعتها سيكون العقابُ شديدا، ولن تكون هناك ثغرةٌ للتوسل أو الاستجداء،  فتجاسرتُ على نفسى، واستجمعتُ قواي، وقرعت الباب أستأذن في الدخول، مُتجاهلا فزعَ قلبى الذى فضحتنى نبضاتُه، وحيث إنه لا يعرفُني، ولم يَرني من قبل، سألنى من أنت؟ فعرفتُه بنفسى، فأشار إلي بالجلوس، رافضا مُساءلتي على مرأى ومسمع زملاء كانوا بمكتبه وقتئذ يتلقون إرشاداته وتوجيهاته ليخرجَ الجورنال فى أبهى صورة، وما إن انصرف الزملاء حتي التفت إلىّ التفاتة غضب، ورنا إلىّ بناظريه فكدتُ أذوبُ خجلا، واستفسر عما بدر مني من خطأ،  فشرعتُ فى التبرير ، وتقديم أعذار صدَّقها كلُ من سمعها قبله، أما هو – وبفراسة ذَهَل لها عقلى، وألجمت لسانى عن التمادى فى كَذبٍ اتخذتُه وسيلة للخروج من (مطبٍ) وقعت فيه؛ ظانا أن للكذب (رجلين)، خاصة أن العقاب إن لم أنجح فى إقناعه سيكون وخيما، وهو الفصل من العمل – فاستمع مُنصتا، ثم قال هادئا :  إن خطأك لم يكن عفوَ الخاطر، بل كان مُتعمدا، وصدَق والله الفارسُ النبيل، إذ غيرتُ في نصِ الكاتب؛ تعضيضا لقناعات عندى كنتُ أخالف بها ما كتبه، مُستصغرا عِظَم ما فَعَلتُ، إذ انقلبت الأهرام رأسا علي عقب، وتوالت اتصالات الغضب من القراء، الذين تبنوا رأي الكاتب، ولولا طبيعةُ مطاوع الإسفنجية، وحلمُه المعهود، لكنتُ في الشارع قبل مرور عامٍ علي تعييني، ثم قدَّم لى أول درس فى الصحافة، وأوصانى بأن يظل حلقة فى أذنى طيلة حياتى وهو (الموضوعية واحترامُ نص الكاتب)، مهما اختلفتُ معه فى فكر، أوعارضته فى مُعتقد.

ثم توالت لي خلال ذلك اللقاء مناقبُ مطاوع، ومنها مدى حنوه، وحرصه علي مصلحة مرءوسيه، إذ أكد لى بأبوة صادقة أن رئيسى المباشر رفع إليه مذكرةً تُطالب بفصلى من العمل جراء ذلك الخطأ، إلا أنه رفضها؛ حرصا منه على مستقبلى، وإيمانا منه – بعد مُقابلتى – بأن فىّ خيرا يمكن استثمارُه، وطاقةً سيكون فيها نفعٌ لو تم توظيفُها.

 وبحكمة القائد – بعدما وجه لى إرشاداته – حوَّل دفة اللقاء من مُجرد لومٍ ومساءلة، إلى جلسة بحث ومُدارسة، حيث طلب منى بحثا يدعم ما أثير من قضايا أثناء لقائه الذى بدأ داميا وانتهى أبويا حانيا؛ إذ توطدتْ بعده عُرى صداقتي به بجانب أستاذيته لي!

 فرحم الله عبد الوهاب مطاوع الكاتب الإنسان، الذى استطاع بعبقريته الفذة أن يسبر غور النفس الإنسانية، ويعرف مكنونها ويستنطق خباياها بفراسة المؤمن.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى