المفرزة التي لاحقت المشاهير (13)

من حقيبة مذكرات الكاتبة وفاء كمال الخشن | لبنان

لم أكن يوماً من عشاق أعياد الميلاد. لكن كنت اعشق الموسيقى والحفلات لأنها تبعدني عن مشاكلي وهمومي. وتتيح لي مجالاً أكبر من الحرية ، حيث كنت ألمح في عيون أشقائي شغفاَ مختلفاً عن الأيام العادية.فحينما يبدأ شقيقي الطبيب محمد عزفه المنفرد على العود, وتصدح شقيقتي الشاعرة فادية وزوجها بصوتهما الشجي. يتمايل الجميع على أنغام الموسيقى التي تمد كل من حضر بالفرح وتجدد طاقته.ورغم ان مناسبة عيد الميلاد تذكرني بتناقص سنوات عمري . لكنني قررت ذلك اليوم ان أقضي وقتاً ممتعاً . فقد توافد معظم الأصدقاء وتأخر الماغوط ..توجه جمال نحوي وقال بصوت خافت وبلهجته اللبنانية (ياغبن هالهندوزة) أي  يالخسارة تعبنا في ديكور الصالة وتأنقنا الزائد !! لم يتابع كلامه حتى قُرِع جرس الباب ..فنظر جمال باتجاهي وأخرج طرف القصيدة من جيبه . أشرت له بعلامة الفهم .فتحت الباب لتفاجئني فتاة جميلة مثل نسمة ربيع هادئة . حيَّتْني بلطف ودخلت يتبعها الماغوط ..كانت سمراء طويلة بسحنة هجينة ترتسم على شفتيها ابتسامة تكشف عن أسنانها البيضاء ..وكانت تفوح منها رائحة عطر لانكوم كنت أحلم باقتنائه . وقد فوجئت حين قدَّمت لي زجاجة عطر من نفس النوع . لم أسأل من هي ولم أطلب من الماغوط ان يعرفني عليها , رنوتُ بعين يملك لحظها مئة سؤال دون  أن أنبس ببنت شفة ..كنت اعتقد أنها ”  سلمى ” وهي فتاة سبق للماغوط أن حدثني : إنه كان يملي عليها مذكراته .وشعرت برجفة تسري في أطرافي لأنني تذكرت قوله: لو كنت أعرفك من قبل، لطلبت منكِ فعل ذلك. كان يدفع بسلمى كي ترقص . فاغتنمتُ الفرصة لأرحب به دون ان أظهر اضطرابي . لم يكن هو سعيداً . فأسوأ شعور يمكن أن يعيشه المرء هو رؤية الفرح قريباً منه مع عدم مقدرته على الشعور به ، بسبب الحزن الذي يشغل أعماقه . فإن لم نسرق الفرح فسوف تنزلق الحياة من قلوبنا لأن القلب المملوء حزناً يصعب حمله . كان الماغوط صامتاً طيلة الحفل رغم اهتمام الجميع به ..أما سلمى فكانت تراقص صديقي الشاعر الذي نسي قصيدته ونسي نفسه . حتى غادر الماغوط مبكراً.

قال جمال تخوزقنا:  وراح ينشد وهو يضحك:

عالسكيت عالسكيت

شو ماقلت وشو ما احكيت

عندك مابزورك بالبيت .

كنت في اليوم التالي في زيارتهم وقد قررتُ  أن تكون هذه الزيارة  زيارتي الأخيرة لهم. دخلت الصالة وكأنني أدخلها للمرة الأولى، وعلى الأرجح كأنني سأغادرها للأبد٠ كنت أتمعن في تفاصيلها ٠ ستائرها الأنيقة. الطاولة الخشبية الكبيرة في النصف المقابل. من الصالة،  صورُ الماغوط التي كانت تترس الحائط ٠ المكتبة وصورة سنية التي لم أكن ألحظها من قبل٠ تخيلتها تتطلع نحوي بعينيها الطفلتين الوديعتين وتنفرج ضفاف فمها عن ابتسامة رقيقة حزينة ٠وسرعان ما تخيلتها كائناً ثلاثي الأبعاد٠يخرج ذراعيه من الإطار ليعانقني٠ ولو تأخر الماغوط أكثر في إحضار القهوة التي طلب من ابنته شام أن تعدها، لعاد ووجدنا أنا وسنية نتجاذب أطراف الحديث ٠ لم لا؟ فأنا حالمة ورومنسية أكثر من اللازم ٠ فذات يوم كنت أحضر ” فيلماً ” كان بطله تائهاً في أرض العدو. وجاء الطيران الحليف يبحث عنه ٠ وكان يحلق فوقه دون أن يراه ٠ وبغمرة اندماجي وتفاعلي مع الحدث رفعت يدي باتجاه الجندي مشيرة للطيار على مكان وجوده وأنا أقول: إنه هناك خلف الصخرة ٠

 دلف الماغوط الصالة يحمل صحناً يحتوي بسكويتا متطاولا مصففا بعناية ٠ وضعه على الطاولة وقال: تفضلي ٠ أخذت قطعة وقضمت جزءا منها وأعدت ما تبقى للصحن ٠ قال أكملي مابك؟ فتناولت قطعة غير الأولى وقضمتها ثم صففتها قرب سابقتها.

 دخلت شام تحمل صينية عليها فناجين، قدمت لي القهوة ٠ فقال: جربي البسكويت مع القهوة ٠ راحت يدي باتجاه قطعة ثالثة غير مقضومة فوضع يده فوق يدي وثبتها ممازحاً بلهجته الحموية ( مابدي قطمشْهِن كلهن) ٠ يقصد البسكويت ٠

 ضحكت وقلت :سنبدأ الحوار أليس كذلك؟ قال: في الحقيقة أنا ظلمتك وتأخرت عليك ٠ كنت أعتقد انك متطفلة على عالم الأدب، الى أن قرأتُك وثبت لي العكس ٠ أنت كاتبة بارعة لا تستهيني بنفسك ولا تُؤْخَذي بالأسماء ٠فنحن بشر عاديون جداً ٠ ذات يوم اجتمعنا انا وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال في منزل الشاعر ” فؤاد الخشن ” لنتباحث في قضايا مجلة ” شعر ” وموضوع الحداثة وقصيدة النثر ٠ وكان فؤاد غنياً فهو إلى جانب كونه شاعراً كان تاجراً ٠ أحضر لنا يومها كيس جزر طازج وكان الجو حاراً جداً، وكانت لديه عصارة جزر صوتها مزعج جدا لكنها تعصر بسرعة وجودة ٠ راح كل منا يجرب حظه في صنع العصير و (على عملة طرررررر رر. يمتلئ الكأس) قضينا يومنا نطرطر كالمحرومين ٠ ولم نتباحث مطلقا في قصيدة النثر ٠ تخيلت الموقف وضحكت كثيرا وحمدت ربي أنه كان رائق المزاج اليوم ومهيأ تماماً للحوارومع الحوار التالي كانت نهاية لقاءاتنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى