يا أخت هارون

د. أيمن العوامري | باحث مصري – القاهرة

قال تعالى في كتابه العزيز على لسان بني إسرائيل؛ مخاطبين السيدة مريم عليها السلام: {يَا أُخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28].
فمن هارون المذكور في الآية؟ وهل هارون أخو موسى -عليهما السلام- هو المقصود؟
أقول: في هارون المذكور أقوال أربع (1):
الأول: أنه شقيقها.
الثاني: أنه أخوها من أمها.
الثالث: أنه هارون أخو موسى، وأنها من نسله، وقد أكد ذلك الطبري في تاريخه (2).
الرابع: أنه من صالحي بني إسرائيل، شبهوها به بجامع الصلاح في كليهما، ولأن المؤمنين إخوة كما أكد القرآن، وفي ابن كثير ما يؤيده (3)، وأيضًا عن قتادته ما يؤيده (4).
لكن يُبعِد القول الثالث ما ورد عن المغيرة بن شعبة أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقال لي أهل نجران: ألستم تقرأون هذه الآية: {يَا أُخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}، وقد عرفتم ما بين موسى وعيسى؟ فلم أدرِ ما أرد عليهم حتى قدمت المدينة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له؟ فقال لي: «أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» (5) (6).
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية -رضي الله عنه- سبب الشبهة بقوله: «ولو كانت أختهما لكان إضافتها إلى موسى أولى من إضافتها إلى هارون، فكان يقال لها: يا أخت موسى، لكن لما اتفق أن مريم هذه بنت عمران، وذانك موسى وهارون ابنا عمران، فكان لفظ عمران فيه اشتراك، والاشتراك غالب على أسماء الأعلام نشأت الشبهة»(7).
إن الحديث الذي رواه المغيرة بن شعبة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- دليل قاطع على أن هارون المذكور ليس أخا موسى عليهما السلام، لكنه لا ينفي أو يثبت بقية الآراء، أما كونه شقيقًا لمريم أو أخًا لها من أمها، فإن هذا مدفوع بكون أم مريم السيدة حَنَّة كانت عاقرًا، وأن حملها بمريم جاء بعد دعائها الله أن يهب لها ولدًا كما ذكر الثعلبي (8) وغيره كأبي حيان(9)؛ فلم يبقَ إلا احتمال كون هارون المذكور في الآية هو أحد الصالحين المعاصرين لها، قد اشتهرت عبادته وذاع صلاحه وتقواه، وصار علمًا من أعلام الهداية؛ كما ذكر قتادة (10).

____________
(1) ينظر: أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (المتوفى: 745هـ): البحر المحيط في التفسير، تحقيق: صدقي محمد جميل، (دط)، دار الفكر، بيروت، 1420هـ، (7/257).
(2) ينظر: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ): تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري، ط2، دار التراث، بيروت، 1387هـ، (1/600).
(3) ينظر: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ): البداية والنهاية، (دط)، دار الفكر، 1986م، (1/276).
(4) قال قتادة: ليس بهارون أخي موسى، ولكنه هارون آخر كان يسمى هارون الصالح المحبب في عشيرته، ذكر لنا أنه اتبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل. يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة، التيمي بالولاء، من تيم ربيعة، البصري ثم الإفريقي القيرواني (المتوفى: 200هـ): تفسير يحيى بن سلام، تحقيق: د. هند شلبي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م، (1/222).
(5) أخرجه أحمد في مسنده، باب (حديث المغيرة بن شعبة)، الحديث (18201)؛ ومسلم في صحيحه، باب (النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء)، الحديث (2135).
(6) حسته الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، كتاب (التاريخ)، باب (بدء الخلق)، فصل (ذكر البيان بأن بني إسرائيل كانوا يسمون في زمانهم بأسماء الصالحين قبلهم)، الحديث (6217).
(7) تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ): درء تعارض العقل والنقل، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم، ط2، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، 1991م، (7/68-69).
(8)
(9) ينظر: أبو حيان الأندلسي: البحر المحيط، (3/115).
(10) ينظر: الحاشية (4).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى