ووهان مش ووهان كورونا واللّى كان كان

أ.د. فيصل رضوان | أستاذ وباحث التكنولوجيا الحيوية والسموم البحرية – جامعة سوهاج مصر والمعهد القومي للمحيطات – الولايات المتحدة الأمريكية

على مدى ما يقرب من ربع قرن من الزمان، أشتغل الباحثون فى ووهان الصينية بمسح عام لأنواع الخفافيش بجنوب آسيا في دراسات عالية المخاطر عن الأمراض الغريبة والمكروبات التي يمكن أن تحويها هذه المخلوقات المخيفة.  وكم زحف الباحثون بشباكهم خلال الكهوف المظلمة واصطادوا هذه الثدييات الشائكة وجمعوا لترات من براز وفضلات الخفافيش.  حاصروا الحشرات والفئران التي تعيش بالقرب من أعشاش الخفافيش وجمعوا الدماء من القرويين الذين يصطادون الخفافيش من أجل الطعام.

عاد الباحثون إلى مختبرهم الحديث في وسط الصين بأنابيب وقوارير تحتوي على ميكروبات قاتلة ومسببات لأمراض ربما تكون مميتة لجنس البشر – وكذلك بعض المفاجآت، ومنها الفيروسات التاجية الغريبة، حينئذ وغير المعروفة سابقًا للعلم.

نُشرت أبرز إنجازات باحثو ووهان حول فيروسات الخفافيش في أكثر من 40 دراسة، وهى لا شك أبحاث أكاديمية وجهدًا طموحًا لتوثيق العلاقة بين الخفافيش وتفشي بعض الأمراض الأخيرة في الصين، والتي تهدف إلى دراسة وتوضيح مدى خطورة مسببات الأمراض الفيروسية الخطيرة والتي يمكنها فى بعض الأحيان القفز من عائلها الحيوانى إلى البشر.

إن مثل هذه الأبحاث تحمل أيضًا مخاطر ضمنية: وهي احتمال أن المختبر نفسه يمكن أن يسهل انتشار الأمراض التي كان العلماء يحاولون دراستها ومنعها من الحدوث.

فى تطور كبير حول مصدر فيروس كورونا المستجد، أصدرت وكالة المخابرات الأمريكية تقييمًا استنتجت فيه رسميًا أن الفيروس وراء وباء كوفيد 19 نشأ في الصين. في الحين نفسه أكد أن العامل الممرض لم يكن من صنع الإنسان أو تم تغييره أو تخليقه وراثيًا، ورفض البيان بشكل واضح استبعاد احتمالية أن يكون الفيروس قد هرب من مجمع المختبرات في ووهان والتي تُعد فى طليعة المعامل العالمية لدراسة الفيروسات المنقولة بالخفافيش، والمسببة لكثير من الأوبئة خلال العقد الماضي.

وصرح مكتب المخابرات الوطنية بأنه: “سنستمر في فحص المعلومات والاستخبارات بدقة لتحديد ما إذا كان تفشي المرض قد بدأ خلال الاتصال المباشر بالحيوانات المصابة أو إذا كان نتيجة لحادث ما في مختبر في ووهان”.

 لا تزال أصول رواية هذا الفيروس التاجي غامضة حتى الآن، وكما كانت عندما ظهرت الحالات الأولى في الصين قبل خمسة أشهر. في حين يرى محللو المخابرات والعديد من العلماء أن نظرية المختبر كأصل ممكنه جداً من الناحية التقنية، على الرغم أنه لم يظهر أي دليل مباشر يشير إلى أن الفيروس هرب من مرافق الأبحاث في ووهان.

نفى المسؤولون والعلماء الصينيون بشدة أي صلة بين تفشي كورونا المستجد ومركز أبحاث ووهان، الذي يضم منشأة عالية الأمان تعرف باسم معهد ووهان للفيروسات. ويؤكد قائد فريق البحث بووهان ، عالمة الفيروسات الشهيرة شي زنجلى  Shi Zhengli، أن المعهد لم يكن عنده أبدًا كورونا المستجد الذي تسبب في الوباء وأصاب أكثر من 3 ملايين شخص في جميع أنحاء العالم. واضافت فى منشور لها، إنها تراهن على أن تفشي المرض “لا علاقة له بالمختبر فى ووهان”.

وفي الوقت نفسه ، حينما يتم التدقيق في أبحاث المختبر ، فإن خبراء الأمن البيولوجي لا يستبعدون مخاطر كبيرة متأصلة، حيث توثق عشرات المرات من التعرض البشرى لحيوانات معروفة بأنها مضيفة للفيروسات القاتلة ، بما في ذلك السلالات التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمسببات الكامنة وراء جائحة كورونا المستجدة.  وفي حين كان الباحثون يرتدون قفازات وأقنعة واتخذوا تدابير وقائية أخرى ، يقول الخبراء الأمريكيون الذين استعرضوا تفاصيل هذه التجارب، إن الاحتياطات لن تحمي الباحثين 100% بالضرورة من التعرضات الضارة والإصابة ، في الكهوف كانت أو في المختبرات.

ولم تقتصر المخاطر على التفاعل مع هذه الحيوانات فحسب، بل تطلبت عشرات الدراسات الروتينية استخراج الفيروسات من براز الخفافيش، وتنميتها على دفعات متفاوتة،  لاستخدامها في مجموعة واسعة من التجارب. بالنسبة لبعض المشاريع ، قام الباحثون بقطع ولصق المواد الوراثية من الفيروسات التاجية المختلفة إحداهما السارس  لإنشاء الفيروس الهجين (chimera) الذى يمكنه أن يصيب الخلايا البشرية بسهولة أكبر في التجارب المعملية.

لا شك ان هذه النتائج ملأت فجوات معرفية كبيرة عن خصائص الفيروسات القاتلة، مما دفع العلماء الصينيين إلى إصدار تحذيرات متكررة بشأن إمكانية ظهور مرض جديد يشبه السارس SARS، ويمكنه القفز من الخفافيش إلى البشر.  ولكن مع الأسف فإنه مع كل تجربة قد تأتى فرص التعرض الغير مقصود لمسببات الأمراض الخطيرة  أثناء التجارب،  وتحدث مثل هذه الحوادث عشرات المرات كل عام في مختبرات عالية الأمان حول العالم ، بما في ذلك في الولايات المتحدة.

ومن الشيق انه السجلات الفيدرالية للمعاهد الوطنية للصحة NIH تفيد انها انفقت اكثر من ثلاثة ملايين منذ 2015 لتمويل أبحاث مشتركة في مختبر ووهان بين علماء أمريكا والصين لدراسة الفيروسات التاجية في الخفافيش.

حتى إذا كان المختبر مجهزاً بأحدث الإمكانيات و آمنًا ميكانيكيًا ، فلا يمكنك استبعاد الخطأ البشري وأعمال الصيانة. وصف تقرير علمى من الصين العام الماضي أوجه القصور النظامية فى عمليات تدريب ومراقبة المختبرات عالية الأمان حيث يتم فيها دراسة مسببات الأمراض كالفيروسات الخطيرة، حيث أن تكلفة الصيانة مهملة بشكل عام. وأضاف يوان تشى مينج  Yuan Zhiming ،  كبير العلماء في ووهان ، فى بحثه المنشور  في مجلة السلامة الحيوية والأمن البيولوجي ، إن العديد المعامل ذات السلامة البيولوجية العالية المستوى BSLs ليس لديها أموال تشغيلية كافية للعمليات الروتينية والحيوية. وكتب أن معظم المختبرات “تفتقر إلى مديري ومهندسي السلامة البيولوجية المتخصصين”.

كتبنا مقال من قبل تناول تفنيد علمي لنفى أطروحة تصنيع كورونا بيولوجيا، وعرضنا نتائج دراسة بارزة عن أصول كورونا المستجدة في مجلة Nature Medicine والتي تعرضت بشكل علمي على تطور طبيعي للفيروس وقللت من احتمال وقوع حادث معملي لعدوى بشرية او تخليقه حيويا.

ولا يخفى على أحد أن الباحثين بمعهد ووهان قد أجروا تجارب نتجت عنها هجين فيروسي كان الغرض منه اكتساب وظائف مرضية وتعزيز صفات طبيعية— لم تكن فيه – وهذا ما يزال مصدر جدل وقلق كبير في الغرب، من احتمال حدوث ضرر كبير إذا هربت سلالة متغيرة خارج المختبر.

المراجع:

X LI et al. : Evolutionary history, potential intermediate animal host, and cross‐species analyses of SARS‐CoV‐2, J Med Virology. https://bit.ly/2VVZDLg

L Klotz: Human error in high-biocontainment labs: a likely pandemic threat, BAS

https://bit.ly/2yZ4Jxe

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى