قراءة في مجموعة ” قلب في القفر ” للكاتب سامح ادور سعد الله

باسمة العوام | سوريا

صدرت المجموعة عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع / مصر _ بورسعيد عام 2021، في كتاب من أربع وتسعين صفحة، ضمّ بين دفّتيه أربعاً وعشرين قصة تحكي حكايات أناس تربّصت بهم الحياة فراودوها بسكون داخلي وأحاديث طويلة تمتد في عمق الأعماق ، مرّ عليها الزمن طويلا ليعود كاتبها يجمع شتاتها، يضخ الحياة بين سطورها فتضج دروساً وعبراً وإيحاءاتٍ عائدةً من بحور الصمت. صرخات كانت عالقة في فم الظلام .

صرخة الذين مازالوا يرتادون حياتنا بصمت، يرافقوننا بصمت، يشاركوننا رسم ملامح الدروب بصمت، وصرخة الذين رحلوا في ضجيج الصمت تاركين أشياءهم المختلسة من كفّ الصبّار ملتصقةً بنا ، تطلق سراح أفكارنا بين وعيٍ ولا وعي على وسادة الحياة.

أربع وعشرون عنواناً لأربع وعشرين محطة، الثامن منها عنوان المجموعة فكانت.. أشباح عارية _ الضبع الذي سرق الفريسة _قيود _ هناك مع الصنم _أصوات الخريف _عندما كتب الصك __منحنى خطر __قلب في القفر __كيف أصفح؟__البحث عن دالة __على مرمى البصر _عصفور يحلق في الخيال_ مشهد عجيب _عبور _ اسمها نبيلة _صورة منسيّة _ الدجال _حصان جامح _ ميراث __الجهل _فتاة الليل البريئة _ خبيئة القرن الجديد _رحلة إلى المحمية الطبيعية __ مدينتي .

والإهداء: “إلى كل من تركونا وهم تاركون أثراً فينا نحيا الحياة بذكرهم إلى الوجه الحقيقي للحياة؛ إلى كل إنسان صادق مع النفس ومع الآخرين إلى الأمل إلى اليقين إلى الحياة.”

والغلاف: يدٌ وكأنها تريد تحطيم وجه الظلام. فأية يد تلك التي سنقرأ عنها بين تلك السطور؟ وإلى أين سيأخذنا الكاتب مع تلك العناوين؟ ماقصة ذاك القلب القابع في القفر؟ ومن هي المدينة التي سنحط رحال النهاية فيها؟!

مع لغةٍ سردية سلسة وعباراتٍ قصيرة بسيطة الكلماتِ وعميقة المعاني تنطوي على رمزيةٍ مميزة، نتجول بين صفحات هذه المجموعة وشخصيات حكاياتها التي ألبسها الكاتب أثواب الخرافة والأسطورة والخيال تارة، وقناع الحقيقة والواقع الذي رمّز به للمجتمع والسياسة والفكر والمبادئ والقيم تارة أخرى ، وإسقاطاتها على حياة نحياها جميعا.

فمن أشباح القصر المخيفة والتي يستعين أهل البلدة بغريب للتخلص منها، فيسلبهم كل شيء لقاء ذلك. إلى الأسود التي تخطط في غياب الخبرة والتبصر، واللبوة التي تنال حريتها بالخيانة. ثم عبد يزأر غضبا رافضاً التخلص من قيوده، إلى تلك الفتاة الشقراء الغامضة التي تحتفي بصنمٍ بعيدا عمّن حولها. وفي حقل القمح يعمل الصديقان بود وإخلاص وبعد الحصاد تهبّ رياح الخريف فتقتلع الغيرة والحسد والكراهية جذور العلاقات. إلى أن نصل إلى ذاك القلب القابع في القفر في صدر مسخٍ آثر النوم والإهمال والتقاعس على حماية حدوده وأسواره، فيزوره الغرباء ليعي ذاته ويحاول كسر قيوده.

وفي جزء آخر، البحث بين مفاهيم الخرافات والسحر والشعوذة للحصول على دالة تفسر أشياء يصعب على الجهَلة فهمها وكيف يستغل الدجال بساطة هؤلاء وجهلهم .وكما للجهل مكان في مجتمعاتنا، كذلك للعلم أثر وتأثير ودلالات عكستها المعلمة ونبيلة وذاك العصفور الذي حلّق في خيال تلميذ فرسم طريقاً آخر للحقيقة. 

وتبقى الرحلة، يأخذنا الكاتب بين صفحاتها، نتغلغل بين سطورها فتنضج الحروف على وقع أنفاسنا، تعيد للحياة شيئاً من رمق الضوء المتشظي بين الظلال، وعند كل نهايةٍ وقفةُ تأملٍ طويلة تضع القارئ على محكّ العبور وتعيده مرات للقراءة من جديد استعداداً لكسب معركة الفلسفة والترميز والإيحاء ورفع راية المعنى المخبوء بين السطور .فنقرأ بعض النهايات. ص7

تمر الأيام طويلة ويحل موسم الربيع من جديد، ويأتي شهر أمشير وتهب الرياح شديدة على جميع أنحاء القرية البريئة، ولم تجد الرياح هذه المرة مصدات الرياح القديمة ولا طاحونة الهواء ولا آلات الرصد التي كان يمتلكها الحكيم قديماَ، التي كانت أعلى القصر القديم لتعبر الرياح بهدوء دون إصدار ضجيجها المعهود ص13.. “كانت تعرف عن أمر الأسد ألا يهان ورغم أنه جاء لنجدتها، كانت له نداً يزأر يطالب بدفع فاتورة مرارة سنوات طويلة، كانت الخيانة سبيلها للحرية.” ص17 ..  “قالت لي: (سيلفي يا بقف) رغم أني بالكاد فهمت الكلمة الأولى، ولكن عجزت عن إدراك معنى الكلمة الثانية.”ص 24..  “رحلوا جميعاً لتقديم الصبيّ قرباناً لهؤلاء، بينما الأم تجري حافية على الصخور الصلبة لتجرحها وتؤلمها، لم يكن شعورها يقاس أبدا بمنظر وليدها وهو مقدم على صخرة عالية لتتم نبوءة جاءت من العالم القديم.” ص30..”عادت الأشجار تخضر والزهور تتفتح من جديد داخل هذه البرية عندما سطعت عليها الشمس.”ص34..” كثيرا حاولت الدراسة والبحث، لكني لم أجد دالة لكل هذا المجهود، وأخيرا سلكت طريق السحرة والعرافين.” ص40..”  نظرت للأسفل، وجدت الفارس بالأسفل نفس الهيئة ونفس المسافة. ألقاني النسر من أعلى، فسقطت فوق الجواد خلف الفارس، وعندما دققت النظر فيه وجدته أنا. “ص44 .. “تأملت المعلمة الموضوع المرسوم على جبين التلميذ الصغير الذي يحاول هو الآخر أن يفوز بالحرية، لكن ما الذي سيخسره لأجل الحرية، وقد اجابها التلميذ بهدوء: صعب عليّ أن أفوز هنا بالحرية مهما كلفني الثمن، لكنني سوف أنعم بالحرية محلقاً في الخيال. اهتزت المعلمة قائلة: لست وحدك.” ص59.. ” وعندما شرع يضع اللمسات الأخيرة، وجد لوحة غريبة جدا لم يشك لحظة واحدة أنه هو من رسمها، عندما وجد لوحة لا تعبر عن امل ولا سعادة ولا حزن ولا تفاؤل ولا حيرة ولا رغبة ولاقبح ولا جمال، وصورة جامدة المشاعر ولاحتى نبض فيها ولا صورة تبوح بالحياة .” ص68 .. ” … وفيما هو خارج من باب البيت الصغير، فتح الباب الموصد ببعض الأحجار، نظر من فتحة الباب، وجد حصانا يعلو في فخر وكأنه مهر قوي يضرب الصخر بحوافره القوية فيخرج الشرر، يلهب القلوب الضعيفة، وعلى ظهر الحصان فارس أحمق شرس يشد اللجام ويستدير يمينا ويسارا، يعلن عن قدوم طاغٍ آخر . نظر الحصان في حسرة لهذا الشاب خلف الأبواب المغلقة وكأنه يقول في حسرة أين كنتم طوال الليل .” ص82 ..” استيقظوا، وليجد كل واحد منهم في بيته القديم، والسيد لازال يمتطي حصانه الشرس وصوت كرابيجه تصدر دويا أقوى من صوت الدوامات، يطالبهم أن يستعدوا لحرث الأرض، وهم سريعا اصطفوا كعادتهم القديمة .”ص89_90.. “وأبله معتوه مستنسخ في تسعة أشباح. كان يظن من نفسه أنه هو من سيفوز برقية هذا الحكيم الخانع الخاضع، لكن استعجل الأمر وطلب معرفة أين توجد المدينة الفاضلة وهدد الشيخ الوقور ولكن لم يكذب العجوز، فهو مازال يبحث عن مدينته الفاضلة، لعله يجدها يوما ويعود إليها وتعود هي له، كان يدرك يوما ما أنه سوف يجدها عاجلا أم آجلا، وظل راقدا على ركبتيه تارة، ويجلس القرفصاء تارة أخرى وهو ينتظر حدوث زلزال يغير وجه الأرض. لكن تمر الأيام وهو في انتظار أن تكمل الشمس دورتها لعله يكون في الفجر الجديد بصيص نور يلهب حماسة قلب مفقود في غياهب الأزمنة العصيبة .” .

 إذا .. هي الخاتمة. مدينة الأحلام ، مدينة السلام، مدينة العلم والضياء والنور، مدينة المرأة الواعية صاحبة الحقوق والواجبات بالتساوي، مدينة الحاكم العادل ورعيته، مدينة الحقيقة والشمس الساطعة التي لاتحجبها سحب ولاغيوم ، وتبادل الظلام خطوة بخطوة.

مجموعة قصصية مكتوبة في معبد التاريخ، تروي قيامة عهود على مساحات حرة بالمحتوى والمضمون والمعنى، تحرك الأوهام الراكدة وتفتح في الجدران ثقوبا ليلج الصباح. استطاع من خلالها الكاتب أن يقدم عملا جميلا مستخدما بعض أساليب السرد وأشكال لغوية مختلفة كالحوار الظاهر، المونولوج، الوصف والتخييل، الاقتباس من الأساطير والتاريخ لرسم صورة الواقع والحقيقة. وبحبكة متقنة وخيط ملون نسج هذه المجموعة في وحدة زمكانية رائعة . فكانت مجموعة اجتماعية، سياسية، فلسفية، تاريخية وتأريخيه ناجحة. ودوما كان يترك الأبواب للقارئ مفتوحة كي يعمل عقله وتفكيره في استخراج مضامين الحكايا والمعنى والدرس ، بعد الغوص عميقا بين السطور .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى