قراءة في كتاب ،،الارتقاء بفن الغناء،، للدكتور محمود الفخراني
د. بسيم عبد العظيم عبد القادر | شاعر وناقد أكاديمي
رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر
تباينت الآراء واشتجرت الأقلام في الغناء من قديم وتعرض له الفقهاء بين مجيز ومانع، أو متوسط بين الفريقين فهو يجيزه بشروط، وخلاصة القول في الغناء أنه كلام، فحلاله حلال وحرامه حرام.
وقد ارتبط الغناء بالشعر منذ نشأة الشعر والغناء، وما حداء الإبل عند العرب عنا ببعيد، فضلا عن الترانيم في المعابد منذ قدماء المصريين وغيرهم من الأمم.
وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني خير شاهد من تراثنا العربي على ارتباط الشعر بالغناء، وقد أسهم الغناء في العصر الأموي وما بعده في رقة الشعر وعذوبته، وانتشاره على ألسنة الناس، وظل ذلك حتى كان العصر الحديث، وقد أصاب اللغةَ العربيةَ ضعفٌ على يدي المستعمرين حتى لقد سطر حافظ إبراهيم شاعر النيل قصيدة منذ أكثر من قرن من الزمان على لسان اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها، وكان طبعيا أن يرتكس الغناء بضعف اللغة العربية الفصحى وانتشار العامية على ألسنة أبنائها، حتى كانت نهضة الشعر العربي على يد مدرسة الإحياء ورائدها البارودي ومن أبرز فرسانها أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، ثم مدرسة أبوللو والمدرسة الرومانسية، وهنا قيض الله للشعر العربي من ينشده ويترنم به فينشره على الناس ويحببه إلى العوام فينتشل الغناء من هوته السحيقة التي تردى فيها بسبب العامية من جهة وانتشار الأمية في الشعوب العربية من جهة أخرى مما أدى إلى انحطاط الذوق وارتكاس الغناء.
ومن فرسان الغناء الذين نهضوا به في القرن العشرين سيدة الغناء العربي أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، هرما الغناء في مصر، وقد نشأت الأولى في رحاب التواشيح الدينية والمدائح النبوية، قبل نزوحها إلى القاهرة، و نشأ الآخر في بيت أمير الشعراء أحمد شوقي، وكلاهما كان يحفظ القرآن الكريم، فكان لهذه النشأة أثرها في ذائقتيهما واختيارهما للكلمة المغناة بحيث تكون سامية المعنى راقيته، وسلسة اللفظ رقيقته.
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا قام بتأليفه شاعر رقيق المشاعر عذب الألفاظ ينتمي إلى المدرسة الرومانسية، فهو طبيب يحذو حذو إبراهيم ناجي ويتخذه قدوة في شعره، وهو من جهة أخرى شاعر يعشق اللغة العربية والشعر العمودي،هو د.محمود السيد الفخراني،وقد قابلته في الأحساء بالمملكة العربية السعودية منذ أكثر من عقد من الزمان، فلمست فيه شاعرا قعدت به الغربة عن أن يأخذ مكانه اللائق به بين شعراء مصر والوطن العربي، ولكنه شغل نفسه بموضوع الشعر فألف لنا هذا الكتاب المهم، كما ألف لنا كتاب صفوة الشوقيات الذي سيطبع مواكبا لهذا الكتاب.
وقد سبق لي أن شاركت في مراجعة موسوعة “أم كلثوم وشعراؤها” للشاعر بشير عياد، وهي موسوعة ضخمة، وكتبت مقدمتها، منذ عدة أعوام، ولكنها لم تجد طريقها بعد للقراء، لعدم وجود ناشر يؤمن بأهميتها ويقدم على طباعتها.
ولعل في صدور هذا الكتاب غنية وعزاء عن تأخر صدور هذه الموسوعة، ثم هو لا يقتصر على قصائد الشعراء التي شدت بها كوكب الشرق أم كلثوم فحسب، بل يشرك معها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، إذ إن هذه القصائد كانت بوابتنا الأولى إلى عالم الشعر، وتركت آثارها في التكوين الوجداني لجيلنا، واقترنت بذكريات الصبا والشباب، حتى إن المرء ليعيد الاستماع إليها رغبة في استعادة هذه الذكريات، مرددا قول المتنبي: أأيامَ لهوي هل مواضيكِ عُوَّد؟
وقد قدم لنا د. محمود في القسم الأول من كتابه وعنوانه: أم كلثوم والغناء العربي، عشرين قصيدة شدت بها أم كلثوم، حظي منها أحمد شوقي بنصيب الأسد حيث ساق له ست قصائد جعلها في باب مستقل بعنوان: أم كلثوم والشوقيات، وهذه القصائد هي على الترتيب: سلوا قلبي، ونهج البردة، وإلى عرفات الله، وولد الهدى، والنيل، وسلوا كؤوس الطلا.
وقد بدأ الكتاب بقصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي، وأعقبها بقصة الأمس لأحمد فتحي، وقدم لأحمد رامي ثلاث قصائد هي: ذكريات، وأغار من نسمة الجنوب، وأقبل الليل، بالإضافة إلى رباعيات الخيام التي ترجمها عن اللغة الفارسية، وقدم قصيدتين للأمير عبد الله الفيصل هما: ثورة الشك، ومن أجل عينيك، وقدم لأبي فراس قصيدة: أراك عصي الدمع، وقدم لصالح جودت قصيدة: الثلاثية المقدسة، وقدم لمحمد إقبال قصيدة حديث الروح، وقدم لحافظ إبراهيم قصيدة: مصر تتحدث عن نفسها، وكل هذه القصائد من تلحين الموسيقار رياض السنباطي.
ولحن لها محمد عبد الوهاب قصيدتين ساقهما المؤلف هما: هذه ليلتي للشاعر اللبناني جورج جرداق، و أغدا ألقاك للشاعر السوداني الهادي آدم.
فهذه عشرون قصيدة من عيون الشعر العربي قديمه وحديثه، وهي كافية لتنمية الحس اللغوي والارتقاء بالذوق عند الناشئة إذا حفظوها ومرنوا على سماعها.
ويأتي القسم الثاني من كتاب الارتقاء في فن الغناء بعنوان: محمد عبد الوهاب موسيقار الأجيال، وقد أورد فيه خمس عشرة قصيدة هي على الترتيب: الكرنك لأحمد فتحي، والجندول وكليوباترا لعلي محمود طه، ونجوى للشاعر الأردني عبد المنعم الرفاعي، ولا تكذبي لكامل الشناوي، والقيثارة لإبراهيم ناجي، وقالت لصفي الدين الحلي، وهمسة حائرة لعزيز أباظة، وأعجبت بي لمهيار الديلمي، والصبا والجمال، وجفنه علم الغزل، والهوى والشباب وثلاثتها للشاعر اللبناني بشارة الخوري الملقب بالأخطل الصغير، وفلسطين لعلي محمود طه، والنهر الخالد ودعاء الشرق وكلتاهما لمحمود حسن إسماعيل.
وكما كان لشوقي نصيب الأسد مع أم كلثوم، فقد كان كذلك مع محمد عبد الوهاب، ولا عجب فهو ربيبه، وقد أفرد د. محمود قسما خاصا بشعر شوقي الغنائي والمسرحي، أورد في الأول سبع قصائد هي على الترتيب: علموه، ويا ناعما، وردت الروح، ومقادير، وخدعوها بقولهم حسناء، ومضناك، ويا جارة الوادي، وفي الآخر أورد له من مسرحية مجنون ليلى أربع مقطوعات هي: ليلى، وسجى الليل، وجبل التوباد، وتلفتت ظبية الوادي.
وبهذا يكون مجموع ما أورده من قصائد شدا بها محمد عبد الوهاب، ستا وعشرين قصيدة، بزيادة ست قصائد عن أم كلثوم، وإن كانت قصائد أم كلثوم المغناة تمتاز بطولها عن قصائد عبد الوهاب ولهذا نالت أم كلثوم نصيبا كبيرا من صفحات الكتاب.
وقد سار د. محمود في كتابه على منهج متفرد فقد قدم له بمقدمة عامة تحدث فيها عن الانقلاب الذي أحدثته أم كلثوم في الغناء العربي، ومشاركة عبد الوهاب لها في الارتقاء بالغناء، فنالا من التكريم في حياتيهما وبعد مماتهما ما لم ينله أحد في أي مجال من مجالات الفنون.
ثم خص الجزء الأول الخاص بأم كلثوم بمقدمة مستقلة ذكر فيها القصائد التي غنتها وشعراءها، وجعل لكل قصيدة مقدمة يذكر فيها موضوعها وشاعرها وإن كان قد حدث فيها تعديل عند الغناء، ويتحدث عن ملحنها وشهرة القصيدة، ثم يورد أبيات القصيدة كما غنيت، ويذكر معاني بعض الكلمات ثم يتناول القصيدة بالتحليل الأدبي المختصر المفيد بأسلوب أدبي راق، وخص شوقيات أم كلثوم بمقدمة ذكر علاقة شوقي بأم كلثوم وتحدث فيها كذلك عن السنباطي والشوقيات.
وكذلك فعل في الجزء الآخر من الكتاب الخاص بعبد الوهاب حيث صدره بمقدمة تحدث فيها عن علاقة عبد الوهاب بالشعر وإيثاره في الغناء، وذكر له خمس عشرة قصيدة كما ذكر شعراءها، ثم قدم بمقدمة لقصائد شوقي التي غناها عبد الوهاب من شعره الغنائي، وقدم بمقدمة لشعر شوقي المسرحي الذي شدا به عبد الوهاب.
يحتوي الكتاب على ست وأربعين قصيدة ومقطوعة من عيون الشعر العربي قديما وحديثا تم اختيارها بعناية فائقة وتلحينها بواسطة كبار الملحنين وشدا بها هرما الغناء في العالم العربي، وهذه القصائد كفيلة بتربية الذوق وترقية الوجدان، ونحن أحوج ما نكون إلى نشرها على أوسع نطاق في عصر انحدر فيه الذوق وسرت في المجتمع لوثة العجمة من جهة والعامية المسفة واللغة المبتذلة من جهة أخرى، عسانا نصلح ما أفسده المفسدون.
وشهادتي في الشاعر د. محمود الفخراني قد تكون مجروحة لحبي له ولشعره بمختلف أغراضه، ولحسن اختياره وعذوبة أسلوبه في الشرح والتحليل سواء في هذا الكتاب أو في كتابه صفوة الشوقيات، ولو كان الأمر بيدي لقررت هذين الكتابين على طلاب المدارس الثانوية في مصر والبلاد العربية للارتقاء باللغة والذوق معا، بعيدا عن النصوص التي يتم اختيارها فتنفر الطلاب من اللغة العربية وتبغضها إليهم إما لوعورتها وإما لابتذالها، ولو لم يكن ذلك متاحا فليكن على طلاب الجامعات، للغرض نفسه، وكذلك أنصح شداة الأدب من الناشئة والشباب باقتنائهما وإدمان القراءة فيهما، فسيجدون أثر ذلك في لغتهم وذوائقهم.